متابعة لمقال سابق نذكر أن بعض العبارات يمكن
أن يطلق عليها صفة "العلمية" والبعض الآخر لا. فالعبارات التي يمكن
التحقق من صحتها بالقياس والتجربة والرصد هي علمية. فمثلاً عبارة "كل
الأجسام تسقط باتجاه الأرض عند تركها حرة" هي عبارة علمية، إذ يمكن
اختبار مضمونها والتحقق منه. كذلك عبارة "تستغرق الأجسام عند سقوطها باتجاه
الأرض الزمن نفسه، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، عند تركها حرة من الارتفاع نفسه".
وهي عبارة يمكن التحقق منها بالتجربة والقياس في أي مكان على سطح الأرض. أما عبارة
"السيمفونية التاسعة لبيتهوفن هي أجمل سيمفونية على الإطلاق"، فهذا
قول يتوقف الرأي فيه على المتلقي ولا يمكن قياسه ويختلف من شخص إلى آخر، لذا فهي
مجرد رأي.
والقياس والتجربة والرصد تتطلب ممن يقوم بها
مزايا عديدة تسمح بمنحه صفة العالم أو المشتغل بالعلم. وهذه الصفات أولها النزاهة
في تجاربه وقياساته ونتائجه. ثانياً الفضول والرغبة في الاكتشاف. ثالثاً أن يكون
منفتح الذهن وغير متمسك برأيه لأن التطور من طبيعة العلم ومستعد دائماً للاعتراف
بالخطأ. رابعاً أن يتحلى بروح الشك إذا لا شيء يسمح بتأكيد حتى ما نعتبره الصحيح
المطلق، خامساً أن يطرح دائماً الأسئلة الجيدة التي تقوده إلى الاكتشاف، ذلك أن
العلم تساؤل دائم ولا يقدم خلاصات نهائية.
والعلم في الواقع يتطور بالرصد الذي يقود إلى
التجربة، التي يستفاد من نتائجها وفق طريقتين: الأولى بالاعتماد على الاستقراء
الذي يؤدي إلى التعميم مثل رصد سقوط الأجسام باتجاه سطح الأرض مما يؤدي إلى القول
بالجاذبية الأرضية. وهذا هو الانتقال من الخاص إلى العام. ثانياً، الاستنتاج الذي
ننتقل فيه من العام إلى الخاص. مثل أن "كل الروس الذين يعيشون في روسيا
يتحدثون اللغة الروسية"، فإذا كان فلانٌ من الناس روسياً ويعيش في روسيا فهو
يتحدث الروسية حكماً.
وبعد الرصد والتجارب يقوم المشتغل بالعلم
بوضع فرضيات. مثل مراقبة وإجراء تجارب تسخين المعادن التي تقود إلى صياغة فرضية أن
"كل المعادن تتمدد بالتسخين". بعد ذلك يجب التحقق من هذه الفرضية
باستخدام الاستنتاج للتنبؤ بأن معدن ما لم نختبره سابقاً سيتمدد إذا عرضناه للتسخين.
بعد ذلك ستجري التجربة على هذا المعدن بتسخينه فإذا تمدد فهذا سيؤكد بالاستقراء
صحة فرضيتنا. وفي حال أن المعدن المعني لم يتمدد بالتسخين عندئذ ستكون فرضيتنا
خاطئة وعلينا إعادة قراءة التجارب ونتائج الرصد والمراقبة وطرح فرضيات أخرى وهلم
جرا.
ديفيد هيوم 1711-1776 |
وغير الفرضية فهناك النظرية. فالفرضية يمكن
التحقق منها بالتجربة أما النظرية فتقوم على مجموعة من الفرضيات وتأخذ شكل قانون
يمكن بواسطته إعطاء نتائج دقيقة عن التجربة قبل القيام بها. فهناك نظرية عن تمدد
المواد تتعلق بنوع المادة وحالتها من غازية وسائلة وصلبة، وأبعادها الفراغية، ودرجة
حرارة التسخين وعوامل ثانوية أخرى. وتسمح هذه النظرية بمعرفة مقدار التمدد عند
التسخين بدون تجربة ذلك. وهي النظرية التي نستخدمها في بناء الجسور المعدنية أو
إقامة السكك الحديدية.
بقي أن نقول إن أحد أهم مواضيع الفلسفة هو
موضوع المعرفة الذي يهتم بمسألة كيف لنا أن نتأكد من صحة معارفنا (فلسفة المعرفة
أو الأبستمولوجيا). صحيح أن الاستقراء يسمح بالوصول إلى تعميمات، ولكنها تبقى
تعميمات محفوفة بالشك. فبحسب الفيلسوف الأسكتلندي الشهير ديفيد هيوم: إن الغربان
التي نشاهدها هي دائماً سوداء، ولكن من يستطيع أن يؤكد بأننا لن نرى يوماً غراباً
أبيضاً؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق