لا يزال سر البناء لدى الأقدمين، من فراعنة
وسومريين وغيرهم، وخاصة في أمريكا الجنوبية محيراً لم يجد بعد جواباً على الكثير
من التساؤلات المحيطة له. فجدران البناء لدى الإنكا، الحضارة التي بدأت مع مطلع
الألفية الثانية بعد الميلاد، تميزت عن غيرها بأنها استعملت حجارة غير منتظمة
الشكل، مربعات أو مستطيلات، في جانبها الظاهر للعيان. وإنما هي حجارة متعددة
الأضلاع ولا تشبه بعضها، لا في الشكل الهندسي ولا في الحجم. ولكنها متراصة بإحكام
في الجدران التي تحضنها وبلا ملاط. والسؤال هنا: لماذا هذه العشوائية في أشكال الحجارة علماً
بأن من كان له القدرة على بناء جدران بهذه الدقة والإتقان كان بإمكانه أن يستعمل
حجارة ذات أشكال منتظمة؟ والبناء باستخدام أشكال منتظمة أسهل وكذلك تحضير الحجارة
للبناء. يسود اعتقاد أن مرد ذلك هو أن الإنكا كانوا يعرفون أن مقاومة البناء
للهزات الأرضية يكون أفضل بكثير في حال استخدام حجارة غير منتظمة، إذ سيكون تصدع
هذه الجدران أصعب بكثير وكذلك انتقال الاهتزاز عبرها. وكما هو معروف فإن منطقة الإنكا الممتدة من كولومبيا حتى
التشيلي في الجزء الغربي من أمريكا اللاتينية هي منطقة هزات أرضية متكررة. وهذه
المعرفة إنما حصل عليها بناءو الإنكا من حضارات أخرى سابقة في أمريكا الجنوبية. التفسير
منطقي ولكن لا يتوفر دليل قاطع على ذلك... وهذا النوع من البناء وجد في أماكن أخرى
في العالم وفي فترات سابقة جداً للإنكا!
وهذه الحجارة، كبيرها وصغيرها، من أين كان الإنكا
يأتون بها؟ كان البناء أحياناً حيث الحجارة، ولكن لم يكن الحال هكذا دائماً. ففي
بعض الأماكن كانت المسافة بين البناء ومكان توفر الحجارة تصل إلى 35 كم. بعض
الحجارة كان كبيراً جداً وصل إلى نحو مائة طن! بعض هذه الحجارة كان يتوفر
بشكل طبيعي ولا يحتاج إلا نقله إلى مكان البناء. البعض الآخر كان من اللازم
اقتلاعه بأدوات بدائية. وهنا كانت تتدخل المعرفة بالصخور والحجارة بالاستفادة مثلاً من
التشققات لاستخراج الحجارة اللازمة. إذ كانت تستخدم جذوع الأشجار أحياناً بحشرها في الشقوق الصخرية ثم تروى بالماء مما يؤدي إلى انتفاخ هذه الجذوع التي ستضغط بدورها على الصخر وتفصله عما حوله.
وهنا تأتي مشكلة النقل. فالحجارة الكبيرة
تحتاج إلى قوة كبيرة لنقلها. وهذا ما كان يتم بالشد أو الدحرجة على جذوع الأشجار
أو الزحلقة على الرمل أو الطين الأملس. وفي كل الأحوال فإن الأمر يحتاج إلى قوة لا
بأس بها. ومن المعروف أن بإمكان الإنسان العادي أن يشد على أرض عادية ذات ميول
معقولة أحجاراً زنة نحو 25 كيلوغرام لعدة كيلومترات. ومن ثم فلشد حجر من نحو عشرة
أطنان فهذا يحتاج إلى نحو 400 شخص. وفي الواقع فإن الأمر يحتاج إلى أضعاف ذلك. فهم
لا يعملون بشكل متزامن تماماً بحيث يمكن النظر إليهم وكأنهم شخص واحد ذو قوة
جبارة. وهؤلاء يحتاجون للعمل بالتناوب مع غيرهم. وكذلك هم بحاجة إلى من يُمهّد
الأرض، وأحياناً إلى عدد كبير آخر للحماية من الانزلاق. وهو انزلاق كان يودي بحياة
الكثيرين عند حدوثه.
حجر بإثني عشر ضلعاً |
ربما أن الجواب هو في القوى الخفية كما يعتقد
البعض. وإن كان هناك من يقول بأن الإنكا، والمصريين أيضاً، كانوا يصبون الحجارة
بالشكل الذي يريدونه، باستخدام تركيبة خراسانية لا نعرف كنهها، ولكن لا شيء يؤكد
ذلك أيضاً. هناك إشارات تحتاج إلى مزيد من البحث بأن أهل أمريكا اللاتينية كانوا
يستخدمون سوائل يستخرجونها من بعض أنواع الشجر تجعل الحجارة أقل قسوة لفترة كافية لتشكيل هذه الحجارة كما نريد. وبالرغم من إغراءات هذه الفكرة
فلا سند علمي يؤكد إمكانها حتى الآن...ولكن لماذا لا نترك القديم بأسراره، أسرار تمنح
سحره الخاص، ولماذا نُشغل بمعرفة ما كان... إنه الفضول الذي لا حد له.... وحتى لا
ننسى، فإن العمال الذين كانوا يشاركون في كل هذه الأعمال كانوا "متطوعين"
لخدمة الملك أو الفرعون... وهم "متطوعون" لأن لهذه كلمة بُعداً دينياً يتناقض مع كلمة "عبيد"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق