عندما تُذكر الحضارة (الغربية) القائمة حالياً فإنما أكثر ما يُستدعى
إلى الذهن هو التقدم التقاني بأشكاله المختلفة وخاصة في المجالات الهندسية والبيولوجية.
فالاتصالات والمعلومات وكل ما ارتبط بهما من تقانات حاضران على نحو طاغ في مختلف
المجتمعات، وكذلك الأمر بالنسبة للتقنيات الإلكترونية والميكانيكية الدقيقة،
والهندسة الوراثية وغيرها كثير. لكن هذا التقدم والتطور لم يحدثا هكذا بدون تطور
آخر في المعارف الإنسانية. خاصة في مجالات العلوم السياسية والاقتصاد والقانون
والمجتمع والفلسفة والآداب والفنون. بل كانت هذه العلوم والفنون في الصدارة ايام
بدء النهضة الأوروبية.
فأشخاص مثل توما الإكويني ودانتي وبترارك وتوماس مور ومكيافيلي ومارتن
لوثر وبيكون ودافنتشي وإنجلو وشكسبير وغيرهم كثر دون أن ننسى ابن رشد، اثروا في
أعمالهم في نهضة أوروبا بأكثر مما أثرّ كوبرنكوس في القرن السادس عشر بانقلابه
على فكرة مركزية الأرض التي كانت سائدة. وهؤلاء لم يتوقف تأثيرهم مع ظهور غاليليو ونيوتن وقبلهم ديكارت، بل على العكس فشخصيات مثل هوبس ومونتين ومنتسكيو وجان لوك
وغوته وهيوم وكانط وفولتير وجاك روسو، كان لهم الأثر الأكبر في نهضة مجتمعاتهم، في
حين أن دور العلوم الأخرى كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا كان مساعداً بالأحرى
في فهم جوانب من الحياة دون أن تؤثر هذه العلوم في مجراها، الذي لم يبدأ إلا مع
نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر مع اختراع المحرك البخاري والقطار
والسفن البخارية والتلغراف والهاتف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع هذا
فإن القرن التاسع عشر هو قرن النظريات الاقتصادية، من ريكاردو وماركس وكتابات أدام
سميث السابقة لهما والمؤسس لما سميّ بعدها بالعلوم الاقتصادية.
وليس التطور التقاني إلا استجابة لحاجات تبرز أثناء مسيرة مجتمع ما.
فمطبعة غوتنبرغ جاءت استجابة للحاجة إلى النشر وتبادل المطبوعات في القارة
الأوروبية على وجه الخصوص، وفي هذه الفترة بدأت اللغات المحلية بالتقدم على حساب اللغة
اللاتينية، التي لم يكن يحسن الكتابة فيها وفهمها إلا قلة من الناس. من أكثر من
استفاد من المطبعة مارتن لوثر الذي ترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية المحلية
وبذلك تمكن الناس من قراءة الكتاب المقدس بدون وسيط (الكاهن) بما يتماشى مع دعوة
لوثر إلى علاقة مع الرب بلا وسيط. كما أن تبادل السلع في القارة الأوروبية كان
يحتاج إلى وسائط نقل فعالة، فأقيمت أقنية النقل المعتمدة على الأنهر في الوقت الذي
كان يجري فيه تطوير المحرك البخاري لدفع السفن في هذه الأقنية. وغير الحاجة فهناك
محرك للابتكار والتطوير يحسب اليوم في أغلبه لدوافع استثمارية، ولكن ما يبقى فإنما
يقابل حاجة أو تطويرا يلقى قبولاً بما له من ارتدادات على "رخاء" الحياة
الإنسانية.
وهذا التطور التكنولوجي وترجمته في المجتمعات يحتاج إلى من يديره على
المستويات الاقتصادية والسياسية والتشريعية والاجتماعية والفكرية، ولهذه أن تجهض
هذا التطور إن لم تكن متوافقة معه. كما أن على هذا التطور أن يكون متوافقاً مع
حاجات فئات المجتمعات ومع مجموعات الضغط الاقتصادية والسياسية. فقد قاومت النساء
الدراجات في البداية لأن تصميمها لم يكن مناسباً لهن. كما أن حروباً جرت وتجري في
الخفاء بين أصحاب تقانات تهدد تقانات أخرى، أو منتجات تهدد منتجات أخرى. فقد روّج
الأمريكان في سبعينيات القرن الماضي لزيت الذرة باعتباره زيتاً مثالياً للصحة دون
أن يغمزوا بالطبع سلباً لزيوت أخرى مثل زيت الزيتون الذي كان يتوفر في الصيدليات
فقط في أوروبا ولكنه اليوم حاضر في معظم موائدها!
مجتمعات كثيرة في الوقت الراهن تظن أن التقدم هو تقدم تقاني-صناعي،
ولكن هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً إن لم يترافق مع إدارة سياسية تعرف كيفية إدارة
مجتمعاتها وتجنبها الأزمات. فالبرازيل مثلاً تقدمت خطوات كبيرة في مجالات عدة أيام
رئيسها "لولا" الذي أحاط نفسه بمجموعة من الخبراء الاقتصاديين
والسياسيين والاجتماعيين. فانتهج سياسة أدت إلى تقدم صناعي وتقاني ولكنها أدت إلى
تطور اجتماعي كبير، إذ إنه بسياساته أثناء فترة حكمه تمكن من إنقاذ 31 مليون
برازيلي من الفقر، وجعل الطبقة الوسطى هي السائدة (50%)، واليوم تتخبط البرازيل
بسبب الفساد. ومثله فعل مخاتير محمد في ماليزيا... أما الهند فكانت أولويتها
الأولى وقف المجاعات، وهي دولة تعتز بمتانة بنائها السياسي.
أزمات كثيرة تعيشها الدول النامية ولا تعرف السبيل إلى الخروج منها. فدساتيرها
صنعت على شاكلة دساتير مجتمعات أخرى، نادراً ما شارك فيها مفكروها أو باحثوها، وهي
غالباً موجودة صورياً ولا يعمل بها إلا من حيث الشكل، مما يجعل الأنظمة السياسية
لهذه الدول أنظمة هشة لا يمكن البناء عليها لإقامة اقتصاد متماسك ومجتمع متماسك وعلاقات
راسخة مع دول العالم المختلفة. والسلطات في الكثير من هذه الدول تتحكم بها فعلياً جهة
وحيدة، ولا فصل حقيقي بين السلطات مما يجعل الفساد السياسي أمراً حتمياً....
وسلسلة التساؤلات هنا لا تنتهي... وفي هذه الدول فإن مراكز أبحاثها الاقتصادية
والاجتماعية تكاد تكون غائبة. في حين أن أسئلة كثيرة وكبيرة يجب الإجابة عليها. ...
مثال على سؤال بسيط: ما هو أثر التضخم المالي على الطبقات المختلفة في المجتمع؟ وما
هو الأثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهجرة الريف إلى المدينة؟ وهذه تأثيرات تختلف
من مجتمع إلى آخر في التفاصيل والنتائج النهائية. كما أن سؤال بسيط في ظاهره يمكن للإجابة عليه أن
تحمل آثاراً عظيمة، سلباً أو إيجاباً، مثل: إلى أي حد يجب أن يكون للدولة إمكانية
التدخل في الحياة الاقتصادية والتأثير فيها؟ ولمثل هذا السؤال وعدم الإجابة عليه
بطريقة صحيحة نتائج كارثية على المجتمع لا يمكن لأي تقدم تقاني أن يزيلها.
غاية الحديث القول إن العلوم اللينة (السياسة والمجتمع والفلسفة
والاقتصاد والقانون...) أولى باهتمام الدول (وخاصة النامية) فيها من العلوم المادية
(التكنولوجيا عموماً...)، فالأولى تساهم جداً في إدارة المجتمع والثانية تساهم في
خدمته، وتخدمه جيداً إن كانت الأولى تحسن إدراك قضاياه وتصوغ حلولها.
ليس ثمة من حيز متاح لتلك العلوم في مجتمعاتنا المتخمة بالثقافة القديمة الراسخة رسوخا لا رسوخ بعده.
ردحذف