تحض المجتمعات على اختلافها على القراءة، ذلك
أن القراءة مصدر للمعرفة والمعلومات والتسلية أيضاً. ولكن العالم لا تتساوى
مجتمعاته من حيث القراءة، فبعض المجتمعات تقرأ أكثر من غيرها، وبعضها يقرأ كثيراً
في حين أن مجتمعات أخرى تقرأ بالكاد. أسباب ذلك متعددة، منها الوعي بأهمية القراءة
والاعتياد عليها ومواظبتها لما تجلب من متعة وفائدة. كما أن هناك لحظات تاريخية
تطرأ في المجتمعات تسرّع السعي إلى القراءة كما حصل في دول غرب أوروبا مع انتشار مطبعةغوتنبرغ (القرن الخامس عشر) التي حدثت في فترة تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة احتاجت
الكتيبات والمنشورات، في حين أن مجتمعات أخرى عارضت دخول هذه المطبعة لأسباب ذات
خلفية دينية مثل روسيا التي لم تدخلها المطبعة إلا مع بطرس الأكبر وكذلك الدولة
العثمانية التي لم تدخلها المطبعة إلا في القرن الثامن عشر وعلى نطاق محدود في
مواضيع الكتب. ومن بين الأسباب الأخرى توفر كتب تهم الناس وتناقش أمور حياتهم بأي
فن من فنون الكتابة: الرواية أو المسرحية أو الكتابة الفكرية والدراسات وغيرها،
وهو أمر يتطلب توفر قدر معقول من الحرية الفكرية تشجع على ولادة الكتّاب والمفكرين
والمبدعين. كما أن للحالة المادية دور وإن كان من الممكن التغلب عليه عبر توفر
المكتبات العامة، وطبعاً لمستوى الأميّة دور وإن كان هذا في تراجع مع تراجع الأمية
في مختلف المجتمعات. ومن الطبيعي اليوم أن نجد أن الدول المتقدمة هي دول يحتل فيها
سوق الكتب مكانة هامة.
وهذه الدول المتقدمة تؤمن للجميع إمكانية
القراءة في مكبات عامة تنتشر بوفرة في المدن الكبيرة والصغيرة يمكن الذهاب إليها
لقراء المجلات والدوريات أو الاطلاع على جديد الكتب واستعارة بعضها لمدة معلومة.
يكون الأمر مجاناً أحياناً يتحمل دافعو الضرائب كلفته على أساس أن ذلك ضرورة لبناء
مجتمع سليم، وبعض الدول تعرض ذلك مقابل رسم اشتراك سنوي بسيط يمكن للمكتبة أن تطور
مقتنياتها بما تحصل عليه من اشتراكات. وهذه المكتبات تتسم بالسعة وتوفير ما يلزم
من الراحة والهدوء للقارئ مع كل خدمات البحث والتصوير والاستعارة من مكتبات أخرى
في المدينة نفسها أو ربما في البلد نفسه.
وغير المكتبات العامرة التي توفرها مدن تلك
الدول فهي تقوم عبر وسائل إعلامها بعرض الكتب ومناقشتها مع مؤلفيها عبر الإذاعات
والتلفاز والصحف وما إلى ذلك. وكذلك إقامة معارض سنوية يشارك فيها مؤلفو الكتب
المعروضة ويقدمون محاضرات في قاعات جانبية عن كتبهم أو تجربتهم في الكتابة بما
يجعل هذه المعارض فرصة سنوية ينتظرها القراء بشغف.
وغير ذلك فقد قامت مؤسسات مدنية بالتعاون مع البلديات في الولايات المتحدة بإقامة ما أسموه "صناديق الكتب" على شاكلة صناديق البريد. وفي هذه الصناديق يمكن لمن يريد أن يضع فيها كتباً قرأها وأعجبته ليقوم شخص آخر بأخذها وقراءتها وإعادتها إلى الصندوق أو لا أو وضع كتاب أو كتب لديه بما يتيح للناس بشكل دائم إمكانية العثور على كتاب للقراءة المجانية. لاقت هذه الفكرة رواجاً وشعبية جعلت الكثير من الدول الأوروبية تحذو حذوها. وهذه بدورها تلاقي نجاحاً طيباً. البعض يضع ما لديه من روايات قرأها ولن يعيد قراءتها، والبعض الآخر يضع كتباً قيّمة يتمنى أن يستفيد منها الآخرون، والبعض يهب ما لديه من كتب بسبب تركه للمدينة إلى مدينة أخرى ولا يريد حمل أثقالاً من الكتب، والبعض الآخر يضع كتباً رافقته في صغره... التجربة فريدة ورائعة علّها تنتشر يوماً في بلادنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق