فينّا...مدينة المدائن

ومن لا يعرف فينّا ومن لم يسمع بليالي الأنس في فينّا. لهذه المدينة أهمية كبيرة في التاريخ الإنساني ولكن ليس لها شهرة مدن أخرى، مثل برلين أو لندن أو باريس أو غيرها. فغير أنها عاصمة النمسا، البلد الأوروبي الصغير نسبياً، فهي مدينة كان لها، ولا يزال، شأن عظيم في التطور الفكري للحضارة الراهنة.

يعود أصل المدينة إلى القرن الرابع قبل الميلاد عندما أقام السلتيون مدينة باسم فندوبونا، أي المدينة البيضاء. احتلها الرومان في السنة الخامسة عشرة قبل الميلاد. وفي القرون الوسطى أصبحت مقراً لعائلتين من العائلات المالكة، آخرها عائلة هابسبورغ التي أصبحت إمبراطورية وأصبحت المدينة عاصمة للإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة. ولكنها تعرضت مرتين للحصار العثماني. الأول كان في عام 1529 بقيادة سليمان القانوني دون أن يتمكن من فتحها. والحصار الثاني كان في عام 1683 بقيادة الوزير قرة مصطفي الذي أعدمه السلطان محمد الرابع بسبب فشله. وتوفر لهذه المدينة السياسي اللامع الأمير مترنيخ الذي نظّم فيها مؤتمر فينّا لعام 1815 الذي تحددت فيه معالم السياسة داخل أوروبا عقب الحروب النابليونية التي استنفذت القوى الأوروبية. أنهت الحرب العالمية الأولى الإمبراطورية الهنغارية النمساوية التي كانت عاصمتها فينّا، لتكتفي هذه المدينة من حينها في أن تكون عاصمة للنمسا.

 

يسكن في هذه المدينة حوالى 1.7 مليون نسمة. ويعبرها نهر الدانوب العظيم، وكذلك نهر فينّا الصغير الذي يلتقي بالدانوب فيها. وهي مقر لمنظمة الأمن والتعاون الأوربي، وكذلك للأوبك (منظمة الدول المصدرة للبترول)، وفيها الوكالة الدولية للطاقة النووية، وكذلك منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية. وفيها تم توقيع العديد من المعاهدات الدولية.

وفينّا من أشهر عواصم العالم في الموسيقا، فغير فرقتها المشهورة عالمياً، عاش فيها الكثير من عباقرة الموسيقا أمثال هايدن وموزارت وبيتهوفن وشوبرت وليست وبرامز وشتراوس الأول والثاني ومالر وغيرهم كثر. يضاف إلى ذلك مسارحها ودار الأوبرا ومتاحفها الفنية وكنائسها الجميلة. وهي المدينة الأولى، منذ عدة سنوات، من بين 221 مدينة في العالم على مؤشر "مرسر" الذي يجمع بين كلفة المعيشة وجودة الحياة.

اشتهرت هذه المدينة فيما عرف في مطلع القرن العشرين بـ "حلقة فينّا"، التي كانت تضم خيرة مفكري فينّا ومن أشهرهم الفيلسوف لودفيغ ويتنغشتاين المعروف بدراساته في فلسفة اللغة.  نشطت جداً في مجال البحث عن أصول المعرفة واشتهرت بدفاعها عن التجريب وعن المنطق التجريبي باعتباره وسيلة للتحقق المعرفي.وكان علمها في ذلك الفيلسوف ردولف كارناب.

بقي أن نقول إن من أبناء هذه المدينة مشاهير كبار من الفيزيائي بولتزمان إلى إرنست ماخ وسيّد التحليل النفسي فرويد إلى فيلسوف الرياضيات فريجي وفيلسوف العلم كارل كوبر، والمنطقي الأشهر كورت غودل الذي قتلته لا منطقيته، وسيكون ذلك موضوع مقال قادم.