انبهر الأوروبيون في النصف الأول من القرن
العشرين بالإنجازات الأمريكية الضخمة التي أخذت تتابع منذ بداية القرن التاسع عشر،
وأخذوا يتطلعون إلى هذا البلد باعتباره نموذجاً في التطور وسرعة النمو والتقدم.
ومن أكثر الأشياء التي شدت الأنظار إليها كانت مصانع السيارات بإنتاجها الضخم،
وكذلك مسلخ المواشي في شيكاغو.
نعم مسلخ المواشي، وهو ليس بالمسلخ البسيط فقد
كان يزوّد 82% من اللحوم للولايات الأمريكية في عام 1900، التي كان عدد سكانها نحو
76 ملايين نسمة، أي أن مسلخ شيكاغو كان يؤمن ما يحتاجه أكثر من 60 مليون شخص من
اللحوم يومياً! كان للمسلخ حظائر مساحتها نحو 150 هكتار تجاوز عددها 2300 حظيرة. ووصل
عدد العاملين في ذلك المسلخ وما حوله من شركات للحوم نحو 41 ألف عامل. وصلت حاجة المسلخ
من المياه إلى ألفي متر مكعب يومياً. وكان
يلقي بقاياه في نهر شيكاغو لتصبح مصدراً للحشرات والأمراض نتيجة
التفسخ مما استدعى تغيير مجرى النهر عام 1900 لتجنب تلوث بحيرة ميتشيغان التي كانت
تغذي شيكاغو بمياه الشرب.
بدأ ذلك عام 1865 عندما اجتمع نحو مائة شخص
من المستثمرين ومن أصحاب المزارع ومربي الأبقار ومسؤولين من شركات سكك الحديد لافتتاح
باحة المواشي الاتحادية في ضواحي شيكاغو عقب انتهاء الحرب الأهلية التي سيقام
عليها المسلخ تدريجياً. كانت شيكاغو قد عرفت تطوراً كبيراً في السنوات العشرين
الماضية خاصة بعد أن أصبحت عقدة رئيسية في شبكة السكك الحديدة الأمريكية مما أهلها
لأن تكون أكبر مركز لتجارة الحبوب والأخشاب في أمريكا والعالم. وبذلك أصبحت مركز
تجارة وتصدير للممنتجات الزراعية سواء إلى داخل أمريكا أو إلى أوروبا. لذا كان من
الطبيعي أن تقام على أرضها باحة المواشي تلك بمساحتها الكبيرة التي أخذت تتدفق
عليها مئات الألوف من المواشي، بلغ عددها 1.5 مليون رأس عام 1866 ووصل هذا
العدد إلى 15 مليون سنوياً بعد عشرين سنة. بلغ عدد المواشي التي ذبحت في هذا
المسلخ نحو 400 مليون رأس حتى عام 1900.
كان من بين الحضور في افتتاح الباحة تلك
فيليب أرمور وهو الذي كان قد جنى ثروة من بنائه لسلالم خشبية للباحثن عن الذهب،
ومن ثم انخرط في تجارة الحبوب، وبعدها أقام شركة متخصصة في ذبح المواشي وتعليب
اللحوم جنى منها أرباحاً طائلة خلال الحرب الأهلية، وهذا ما سمح له بإقامة مصنع
متطور جداً عام 1867 لذبح المواشي وحفظ اللحوم. ذلك أن بيع اللحوم يحقق أرباحاً
أضعاف ما يحققه بيع الماشية. ومن هنا بدأ التصدير إلى كل
الولايات، ذلك أن أجور نقل اللحوم أرخض من أجور نقل الماشية، فشركة القطارات كانت
تتقاضى أجوراً بحسب الوزن، ومن ثم فإن نقل المواشي يزيد من سعر اللحم على المستهلك. كما طوّرت شركة
أخرى لتوزيع اللحوم في شيكاغو قاطرات تبريد اللحوم لهذا الغرض منذ عام ثمانينيات
القرن التاسع عشر.
استمر أرمور في جني أرباح طائلة إلى أن بيّن الكاتب آبتون سانكلير عام 1905 في رواية اسمها "الأدغال" انتهاكات
أرمور الذي كان يدفع لعماله نحو نصف الأجر الحقيقي، والذي لم يكن ليتورّع عن استخدام
الميليشات لردع عماله عن الإضراب، كما أنه لم يكن ليتورع عن القيام بأي شيء بخصوص
الماشية التي كان مصنعه يذبحها طالما أن ذلك يحقق له الأرباح، وكان يستثمر كل شيء
يمكن أن يتحول إلى منتج يباع، إذا كان يقول: "لا نتخلى عن شيء، حتى صراخ
المواشي"... لقد كان أرمور مسلخاً بشرياً أيضاً... لكن الرواية كانت قد كتبت
بعد موت أرمور الذي كان في عام 1901.
مع مرور الوقت أخذت صناعة اللحوم بالتحول إلى
صناعة لامركزية مما أفقد مسلخ شيغاكو أهميته وأغلق تماماً عام 1971.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق