تشير كلمة السياسة في معناها العام إلى
الإطار العام الذي يدار به مجتمع من قبل قادته. وهذه السياسة تمارس وفقاً لدستور
يعرّف بنية السياسة وآلية عملها. تتجسد السياسة في الأفعال التي تحرص على توازن
المجتمع وتطويره داخلياً وتطويره موقعه عالمياً وكذلك على توازن روابطه الداخلية
وروابطه مع الجماعات المختلفة. والسياسة بهذا تتعلق بممارسة السلطة، سلطة تنبع من
كون ممارسها يمثل أغلبية الأفراد البالغين المكونين لهذا المجتمع. وممارسو هذه
السلطة ينتمون عادة إلى أحزاب سياسية لها رؤيتها وتصورها عن كيفية تحقيق غايات
السياسة المذكورة آنفاً والتي يمكن اختزالها بالقول إنها تكمن في حفظ المجتمع
متعاضداً والسعي لرخائه.
هذا التعريف هو التعريف الراهن للسياسة، ولكن
الأمر لم يكن كذلك دائماً. فقد عانت البشرية كثيراً قبل الوصول إلى مثل تلك
الصيغة، وهي مع ذلك ليست بالصيغة السارية في كل المجتمعات. فبعض المجتمعات تعيش
تحت الوصاية أو الرعاية أو ما شابه دون أن تبلغ مستوى السياسة. والسياسة هي كلمة
لا جذور لها في الكثير من اللغات. ففي اللغة العربية تشتق كلمة سياسة من سائس،
والسائس هو من يهتم بالدواب ويعتني بها وأصل ذلك سائس الخيل. أما في اللغات
المشتقة من اللاتينية فالسياسة ترتبط بالمدينة الدولة، وهي تلتصق بالمعنى المذكور
في الفقرة الأولى وتطور المعنى مع تطور مفاهيم إدارة المدينة بمواطنيها وآليات هذه
الإدارة، وهو تطور استغرق مئات السنوات وحتى الآلاف إذا عدنا بالتاريخ إلى أيام
الإغريق.
كانت السياسة في أيام الإنسان الأول الراحل أبداً
باحثاً عن الصيد والثمر غير موجودة، فعدد أفراد الجماعات الرحل محدود، والجماعات
نفسها لم تكن بالكثيرة. أما المجتمعات المتحدرة من أسرة واحدة كما هو الحال في بعض
القبائل فكان الأمر القيادة يعود إلى الأكبر سناً. أما في مجتمعات القبائل التي لا
يرتبط أفرادها بعلاقة فالأمر كان يعود إلى الأعيان النافذين، وهم كذلك إما
لمقدرتهم الشخصية أو المالية، وفي كل الأحوال فإن سلطة هؤلاء الأشخاص لا تورث إلى
أبنائهم وقد لا تدوم لهم أنفسهم. أما في المجتمعات الكبيرة نسبياً المتعددة
الزعامات فكان الحكم فيها يُعهد إلى فرد أو أفراد وكان فيهم وراثياً. وهذه
المجتمعات كلها كانت قبل نشوء الدولة، الدولة الجامعة لمجتمع واحد يحمل قدراً
معقولاً من التجانس.
عرفت الحضارات الثلاثة الأولى: السومرية
والفرعونية وحضارة وادي الهندوس أنظمة سياسية قادت مجتمعاتها على مدى آلاف السنين
وتميزت بسلطة مدينة ودينية تسنمها الحاكم بمفرده في أغلب الأوقات، على الأقل في
الحضارتين الفرعونية والسومرية. وفي هذه الأخيرة مثلاً بدأ الأمر مع تطور النشاط
الاقتصادي الذي قاد إلى ظهور النواة الأولى لمجتمع ما ومعها ظهرت المدينة وبدأت
معهما الفوارق الاجتماعية. ولظهور الكتابة الدور الأبرز في إدارة منطقة بعينها
بطريقة واعية، فالكتابة سمحت بإرسال رسائل إلى أماكن متباعدة وتسجيل الحسابات
وبناء السجلات لكل الموارد التي تسمح بإدارة الدولة-المجتمع. وقامت دولة/دول قبل
خمسة آلاف سنة بنوع من الحكم الملكي الدستوري أو ما يشبه الجمهوري. ففي مدينة
أوروك مثلاً كان هناك مجلسان يماثلان حالياً مجلس الشيوخ ومجلس الشعب، وهذا
المجلسان يقرران شرعية الملك الذي لا يمكنه الشروع في حرب مثلاً إلا بالرجوع إلى
المجلسين. وكلمة ملك لم تكن موجودة وإنما كلمة "الرجل الكبير" التي نترجمها
حالياً بمعنى ملك. والملك لم يكن وراثياً وإنما يعود إلى شخص يستحق هذا المنصب كما
تدل على ذلك أفعاله وفضائله. ولكن هذا لم يدم. فمع بداية الألفية الثانية قبل
الميلاد حلت الوراثة بطريقة ثابتة وتراجعت الجمهورية والمؤسسات الشعبية. ومع الحكم
الوراثي ظهرت التشريعات، مثل تشريعات حمورابي، كان الهدف الرئيس منها هو الحفاظ
على التقاليد التي تكرّس الوضع الراهن وصياغتها على نحو تتضمن الأخلاق التي يجب أن
يتحلى بها المجتمع. ومع الربع الأخير من الألفية الثانية لقبل الميلاد ظهرت دول
عديدة وظهرت معها ما نسميه اليوم بالعلاقات الدولية. وظهرت كذلك الحروب بين الدول...
وفي النصف الأول من الألفية الأولى قبل المسيح ظهرت الدولة الإغريقية التي عالجنا
جوانب من نظامها في ورقات سابقة... وللحديث تتمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق