خلق الإنسان عارياً، على غير الكائنات الأخرى التي تحتمي بجلودها ووبرها بما
يمنع عنها البرد ويحميها من حرارة الشمس. ولو نظرنا في الأمر عن كثب لوجدنا أن
للكائنات مواطن عيش أولى، ولدت فيها، وتكيفت مع الوسط الذي تعيش بما يسمح لها بالبقاء
والاستمرار. وما نجده في منطقة من كائنات لن نجده في مناطق أخرى مختلفة بيئياً إلا
إذا كانت هذه الكائنات قادرة على التكيف والعيش في بيئات مختلفة. فلا يمكن للسمك
أن يعيش خارج المياه، ولا يمكن للطير أن يعيش في البحار. كما لا يمكن للدب أن يعيش
في الصحراء، أو للماعز أن يعيش في القطب الشمالي. وربما لم يكن ظهور الإنسان الأول
في أفريقيا إلا لأن الوسط الأفريقي البيئي يسمح لهذا الإنسان أن يستمر في الحياة،
وخاصة الوسط الاستوائي. ولكنه الإنسان الفضولي الذي يريد أن يعرف ما يدور حوله، أو
الإنسان الذي يفكر ويُقدّر ويريد من ثم حماية نفسه من عاتيات الدهر، قام بتوسيع
دائرة فضائه الحيوي جغرافياً، فانتقل من مكان إلى آخر، وخرج من أفريقيا وانتشر في
كل أصقاع الأرض.
وفي ذهابه إلى مناطق متبدلة المناخ (غير الاستوائية) كان عليه أن يحمي نفسه من البرد خاصة، فاتخذ من جلد الحيوان، بقايا صيده أو الحيوانات النافقة، دثاراً يلتف به ويحميه من البرد قبل أن يحميه من الشمس. والتجأ إلى المغاور يحتمي فيها من برد الشتاء.
وفي مسيرته الطويلة، توصل إلى فكرة النسيج، ليصنع قماشاً فأثواباً. كان النسيج
أكثر حماية من جلد الحيوان الذي كان يغطي أجزاء من الجسم دون أخرى.
ولم يصل الإنسان إلى فكرة النسيج هكذا، بين ليلة وضحاها. فقد أصبح معروفاً الآن أن الفترة التي استخدم فيها الإنسان لجلود الحيوان لحماية جسمه تعود إلى أكثر من 600 ألف سنة. تعلم خلالها الإنسان جيداً كيفية كشط لحم الدابة عن الجلد قبل ارتدائه. وتعلم كيف يربطه حول جسده بواسطة حزام من الجلد، قصّه من الجلد نفسه. وتعلم أيضاً كيف يصنع فتحات في هذا الجلد تمكنه من إحكام لف الجلد حول جسده باستخدام الحزام والفتحات.
وأول أداة اخترعها من عظم الحيوانات نفسها كانت تشبه المسلات المستخدمة اليوم، وذلك لصنع ثقوب "جيدة" في ثوبه الجلدي. كان هذا قبل حوالى 40 ألف عام.
بعد ذلك انتبه الإنسان إلى صوف الماشية التي أخذ بتربيتها في بلاد ما بين
النهرين منذ حوالى عشرة آلاف سنة، وإمكانية تشكيل خيوط من هذا الصوف، خيوط لا بد
أنها استخدمت أولاً في أشياء أخرى غير الثياب. وهنا يمكن أن نفهم خلفية أسطورة
"الجزة الذهبية".
ولكن هذا كان يقتضي معرفته بالغزل، أي فتل الشعرات حول نفسها لتشكيل خيط.
وفي الواقع فقد كشفت التنقيبات أن البدايات الأولى لفكرة الغزل تعود إلى حوالة 30
ألف سنة بحسب ما وجد في مغارة دزودزوانا في جورجيا لما يشبه الشعر المفتول المصنوع
من القنّب وشعر الماعز.
والنسيج هو حياكة خيوط أفقية مع أخرى شاقولية بطريقة تجعلها تمسك ببعضها، فتعود
بداياتها إلى نحو 25 ألف سنة سنتحدث عنها في مقال لاحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق