من الناس من امتهن
العلم ولكنه نسي أنه، كما لكل شيء، من الواجب احترام القيم الإنسانية أولاً، وإلا فلا
نفع من علمه. وهنا التاريخ لا يرحم، فكل من حاول أن يفعل غير ذلك نسيه التاريخ
وأحياناً كثيرة لفظه أو لعنه. والعلم، ككل المهن، يتطلب قدراً من الأخلاق، لا بل
يتطلب الكثير من الأخلاق. فبقدر ما يمكن للعلم أن يكون مفيداً يمكن أن يكون ضاراً
باستخداماته ومدمراً. المثال النووي لا يحتاج إلى تعليق، وكذلك هندسة الوراثة.
وحتى كل صنوف العلم وإن كان الأثر الضار بدرجات.
أحد مشاهير العلم في
القرن العشرين هو الهنغاري الأصل، الأمريكي الممات، جون فون نيومان. وهو نابغة من
نوابغ الدهر. تعلّم القراءة وله من العمر سنتان، وانتهى من قراءة مكتبة بيتهم
الثري في الثامنة من العمر حافظاً بعضها عن ظهر قلب. تعلم اليونانية القديمة وتحدث
بها ولم يبلغ السادسة من عمره بحسب الروايات. نبغ في الرياضيات أيما نبوغ، وحصل
على شهادة الدكتوراه فيها وهو في الثانية والعشرين من العمر. وترك أثراً في كل
مجال خاض فيه، وما أكثرها. من الوراثة إلى نظرية السَبْق game theory إلى نظرية المجموعات، إلى الميكانيك الكمومي، وحتى في الاقتصاد.
هذا طبعاً إذا تركنا جانباً عمله في الحاسوب ونموذج معمارية الحاسوب الذي يسمى
باسمه باعتباره النموذج الأساس.
شارك فون نيومان في
مشروع مانهاتان لبناء القنبلة النووية الأمريكية، نظراً لخبرة سابقة كان قد
اكتسبها جراء عمله مع الجيش الأمريكي في المتفجرات، وله نظريات رياضياتية في ذلك.
كان دوره الأكبر في ذاك المشروع هو حساب الارتفاع الذي يجب عنده تفجير القنبلة
النووية لكي تحدث أكبر خراب ممكن. وبالفعل فقد حسب ذلك تماماً. وهذا ما أدى إلى
أكبر خراب في هيروشيما عند انفجار القنبلة على ارتفاع 580 متراً مسبباً مقتل عشرات
آلاف الناس ومدمراً كل شيء في دائرة قطرها 12 كم بإطلاقه ريحاً تراوحت سرعتها بين
200 و 300 كم في الساعة.
ترأس نيومان بعد ذلك
لجنة مشروع القنبلة الهيدروجينية. وكانت له نظرية اسمها "الدمار المتبادل
المضمون"، وفحواها أنه إذا امتلك الخصمان الكثير من الأسلحة النووية فإنهما
لن يستخدماها لأن ذلك سيسبب تدمير الاثنين معاً. أي أنه كان يطالب البشرية بالعيش
عند حافة الهاوية.
لم يتخذ نيومان أي
موقف ضد الأسلحة النووية، كما فعل كل مشاهير العلم في ذلك الوقت بمن فيهم هؤلاء
الذين عملوا على مشروع إنتاج القنبلة النووية. ولم يكترث للمحرقة اليهودية بالرغم
من أصوله اليهودية التي تخلى عنها، وذلك على عادة الكثيرين من المشهورين وخاصة من ذوي الأصول اليهودية. ولم يشارك في أي شيء له صلة بحقوق الإنسان أو
حمايته. كان يكره الشيوعية كرهاً عميقاً ولا يبحث إلا عن دمارها.
مات عام 1957 ولمّا يتجاوز
الرابعة والخمسين، كان ذلك على الأغلب بتأثير المواد المشعة التي نفذت إلى جسمه
أثناء مشاركته في التجارب النووية الأمريكية. وهو اليوم منسي تماماً، على عكس آينشتاين
مثلاً (الذي لم يرتبط به بعلاقة طيبة مع أنهما كانا يعملان في الجامعة نفسها) ...
وهو يذكّرنا بقول مفكر فرنسي من القرن السادس عشر، فرانسوا رابليه:
"العلم بلا ضمير دمار للروح".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق