ليس حال الفلسفة كبقية الاختصاصات. ففي الطب
مثلاً يتعلم الطالب كل ما يحتاج لممارسة الطب. وممارسة الطب معيارياً تجري
بالطريقة نفسها أياً كان الطبيب. قد يكون هناك اختلاف في التشخيص بين طبيب وآخر،
ولكن الاختلاف قابل للنقاش والوصول إلى تحديد علاج. أو اللجوء إلى مزيد من
التحاليل لقطع الشك باليقين وتحديد التشخيص والعلاج على نحو أفضل. والحال هو نفسه تقريباً في
مجمل الاختصاصات الدراسية.
أما في الفلسفة فالأمر ليس بهذا الوضوح وذلك
لأسباب عديدة. أولها أن الفلسفة هي في الأصل أم العلوم. تقلصت شيئاً فشيئاً لتصبح
اختصاصاً بحاله. فقد كان أول الفلاسفة المعروفين مشغولين بمواضيع شتى من الطب إلى
الرياضيات إلى الفلك والفلسفة وغيرها. واستمر هذا حتى فترات قريبة. فابن رشد مثلاً
كان طبيب الخليفة الأندلسي وقاضي الدولة وفيلسوفاً. وكذلك كان حال ديكارت الذي اهتم
بمواضيع شتى من الرياضيات والفلسفة وغيرهما. ولم تصبح الفلسفة اختصاصاً يشتغل به
شخص دون اشتغاله بغيره إلا منذ نهاية القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الألماني كانط
فيما نعرف. ومن وقتها بدأنا نسمع بأشخاص فلاسفة لا اشتغال آخر لهم إلا الفلسفة،
ومن وقتها انفصلت بذاتها.
كما أن الفلسفة يصعب وضعها في قالب وحيد،
سواء من حيث نمط المسائل التي تعالجها، أو من حيث المقاربة. فلكل موضوع العديد من
المقاربات التي تختلف باختلاف العصر وباختلاف المعارف وباختلاف المنظور. واختلاف
وتغير المعارف يجعل من الفلسفة موضوعاً دائم التغير من حيث الخلاصات. كما أن تغير المنظور والمقاربة يجعل مواضيعها متجددة على الدوام.
اختصت الفلسفة لنفسها بمواضيع رئيسية منذ
بدايتها. أولها فلسفة العلم التي تهدف إلى البحث في مسألة: كيف نتحقق من صحة
معارفنا؟ بالتجربة أم بالاستنتاج والاستقراء أو غير ذلك؟ والمسألة الثانية هي
مسألة الأخلاقيات التي تبحث في مسألة: كيف يمكن أن نقول بأنّ فعل ما هو أخلاقي
(حسن، أو مقبول أو لا ضرر منه) أو غير أخلاقي؟ وعن هذه المسألة تتفرع مسائل أخرى
استقلت مع الزمن بحالها مثل مسألة العدل. والمسألة الثالثة التي تعالجها الفلسفة
تتعلق بالجمال: كيف ومتى نحكم على جمال الأشياء وما دوافعنا في ذلك؟ يضاف إلى ذلك
مسائل عديدة ذات صلة لا يتسع المجال لإجراء جرد كامل لها. وعلينا ألا ننسى أن المنطق هو إنتاج فلسفي في أصله استحوذت عليه الرياضيات لاحقاً.
ولكن كيف نتفلسف؟ يبدأ الأمر بالتساؤل ومحاولة
الإجابة، ومن ثم الطعن في الإجابة ونقدها، ومن ثم البحث عن جواب أقرب إلى الصحة
وهكذا. وبكلام آخر عندما نجد أنفسنا أمام قضية ما فأول ما نبحث عنه هو الإجابة عن: هل نحن إزاء قضية أو مسألة تستحق البحث والتفكير؟ ومن ثم نحاول نقاشها وتقديم الحجج التي توضح أننا إزاء مسألة
حقيقية وليس أمام مسألة واهية. ثم نقوم بتحديد الأسس والإطار العام للمسألة، ومناقشة المسألة بعد ذلك بالاستعانة بالمنطق وبالمفاهيم المتوفرة أو ربما نبني
بعضاً منها (المفهوم هو بناء عقلي لفكرة عامة أو مجردة مثل مفهوم الدولة أو الحق أو
المواطنة أو الواجب الخ) للوصول إلى نتيجة تقود إلى فعل أو تسمح
بمتابعة الحوار بهدف الوصول إلى فعل، وقبل الفعل تجري عملية الانتقاد والبحث عن
مكامن الضعف في النتيجة النهائية لتعديلها إن لزم الأمر... فهل قضايا مثل الحرية
أو الحقوق أو الإنصاف، بمعناها الواسع في المجتمعات، هي قضايا يمكن التفلسف فيها
مثلاً... أتمنى لكم فلسفة موفقة مع موضوع أبسط من كل هذا وذاك، مثل موضوع "الصمت"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق