أطلقت الإدارة الأمريكية منذ عدة سنوات مبادرة على مدى عشر سنوات خصصت لها ميزانية بقيمة ثلاثة مليارات دولار لتوضيح النشاط المعقد للدماغ الإنساني، أي رسم خارطة الدماغ البشري.
كما أن الاتحاد
الأوروبي أعلن منذ نحو ثلاث سنوات عن تمويل بمقدار 1.5 مليار دولار لمبادرة مماثلة على مدى
عشر سنوات تطمح لبناء أداة محاكاة للدماغ البشري قائمة على آليات العمل الداخلية لجزيئات الدماغ وعصبوناته وداراته. إضافة إلى
مبادرات خاصة مثل مبادرة بول ألن Paul Alen (المؤسس المشارك
لمايكروسوفت)، الذي فقد والدته بسبب مرض الزهايمر، وقام
بإنفاق الكثير لفهم التوصيلات الدماغية.
والعائد الضمني من
رسم خارطة الدماغ هو فهم آليات عمل الدماغ الداخلية بحيث يمكن للبيولوجيين محاكاة نشاطاته
وتطوير عقارات جديدة للاضطرابات العقلية، وكذلك تطوير مساعدات حركية تفاعلية لأصحاب
الأعضاء المبتورة. وقد ينجم عن دراسة الدارات العصبية يوماً ما غرس أدوات تعمل حول
النسيج المصاب لوقف خلل فقدان الذاكرة العقلي أو تمكين الأكفّاء من الرؤية مثلاً. كما سيؤدي ذلك إلى تطور في ميادين معمارية الحاسوب. فالدماغ يعالج دفقات متعددة من المعلومات بدلاً من حاسوب اليوم الذي يقوم
بالمعالجة خطوة فخطوة.
سيجري العمل وفق ما يسمى بالهندسة
العكسية التي تعني تفكيك شيء ما لمعرفة كيف يعمل ومن ثم إعادة بناء نسخ مماثلة. وهذا ليس بالأمر السهل، فللدماغ نمط
توصيلات معقد يتغير بفعل الزمن. ففي أدنى مستوى –وهو مستوى العصبونات- تنتقل
النبضة العصبية من عصبون أول، بإطلاق مواد كيمائية عبر وصلات عصبونية synapses كائنة بين كل
عصبونين. وهذه المواد الكيمائية تُحفِّزُ من ثم العصبون الثاني الذي سيكرر العملية
نفسها، وهلمجرا لتكوين أمر لفعل ما، الذي قد يمر بمئات ألوف العصبونات.
وبالفعل، فقد استغرق تطوير
"مخطط دارة" النظام العصبي لدودة مدوّرة عشر سنوات. لهذه الدودة 300 عصبون ترتبط فيما بينها بحوالى 7000 وصلة، وذلك بمراقبة
كل وصلة بمفردها. ولكن الدماغ البشري يتألف من 100 مليار عصبون، ووصلاته تبلغ
تقريباً ألف تريلون وصلة، ومن ثم فإن تسجيل كل إطلاق يقوم به كل عصبون في كل دارة هو مثل
محاولة فك خيوط المعكرونة في برميل هائل. ورسم المخطط هو ليس مسألة بسيطة يمكن تحديدها بمراقبة
كل عصبون وبمن يتصل. إذ يضاف إلى ذلك أسئلة من نوع: كيف تقوم المادة الرمادية بترميز وتخزين المعلومات؟ وكيف
يثبّت الدماغ المعلومات وكيف يستردها؟ أو كيف تذهب هباء لدى الناس ممن يعانون
أمراضاً عقلية؟ فهذا لن يكون تجربة يمكن
إجراؤها في يوم واحد.
وبنتيجة التطور في
تجهيزات التصوير الدماغي والمحاكاة الحاسوبية لعمل الدماغ، فقد تمكنّا من فهم أشياء
كثيرة مثل "لماذا ننام" أو "ما هي الذاكرة"، وفهم آلية الإدمان
والشيزوفرانيا والتأذي الدماغي الرضي... إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لرسم الخارطة
المنشودة، ومحور الصعوبة يكمن في أن الدماغ عضو دائم الحركة، لا يمر بلحظة
سكون تسمح لنا بالقول: "أوريكا.. أوريكا"... لكن، كما يقول المثل: من
سار على الدرب وصل... وسيصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق