لا يزال سبب الكتابة الفعلي مجهولاً، أي
لماذا كتب الإنسان؟ هل كان ذلك لأسباب دينية أو فنية أو للتواصل مع مجموعات الجيش
البعيدة أم لأسباب أخرى؟ الأمر محيّر فعلاً فلا شيء يساعد على معرفة ما الذي حذا
بالإنسان ليخترع الكتابة. زادت صعوبة هذا السؤال مع اكتشاف الألماني يوليوس جوردان
عام 1929 في مدينة أوروك على ضفة الفرات لمكتبة من الرُقم تعود إلى 5000 سنة
مكتوبة بالمسمارية وهي أقدم من كل الكتابات المعروفة آنذاك من صينية أو فرعونية أو
بين الأمريكيتين. ولكن مدينة أوروك كانت مليئة بأشياء فخارية صغيرة ذات أشكال
مخروطية وكروية وأسطوانية. وصفها جوردان "منتجات من الحياة اليومية تمثل أشياء
مثل القدور والخبز والحيوانات" بالرغم من أنها أشكال منتظمة ومعيارية. ولكن
أحداً لم يعرف سبب صنعها.
أخذت الباحثة الأثرية دونيز شماندت-بيسيرا في
عام 1970 بتنظيم اللقى المشابهة من مناطق مختلفة تمتد من تركيا إلى الباكستان يعود
بعضها لقرابة 9000 سنة. اعتقدت هذه الباحثة أن لهذه الأشياء هدف بسيط وحيد هو
الحساب عن طريق المطابقة، فالأشياء التي لها شكل الخبز تستخدم لعدّ الخبز، وتلك
التي لها شكل القدور لعدّ القدور. والعد بالمطابقة أمر سهل ولا يتطلب معرفة
بالعدّ، إذ يكفي النظر إلى كميتين والتحقق من تطابقهما.
ومثل هذه الطريقة استعملت بالتسجيل على عظام القردة عند منابع النيل في الكونغو من قبل عشرين ألف عام. ولكن الأشكال التي عثر
عليها في مدينة أوروك كان لها ميزة التنوع في عدّ الأشياء وإمكانية الإضافة
والطرح. وهذه المدينة كانت تضم الكهنة والمهنيين ومخازن الغذاء الذي كان يجلب من الوسط
المحيط القريب. أي كان هناك اقتصاد يتطلب الحساب والتخطيط وجباية الضرائب. ولنا أن
نتخيل محاسبي ذاك الزمان حيث يجلس أحدهم على مدخل المعبد يعدّ أكياس الحبوب
الداخلة والخارجة باستخدام الأشياء الفخارية الصغيرة المشابهة للخبز.
كرات العقود الفخارية |
وتضيف الباحثة الفرنسية أن الرموز المجردة التي تظهر على الرُقم التي عثر عليها في المكتبات تقابل هذه الأشياء الفخارية الصغيرة، وأن الرقم استخدمت في البداية لتسجيل حركتها، أي لتسجيل أعداد الخراف وقدور العسل والحبوب. وتضيف أيضاً أن المحاسبين انتبهوا فيما بعد إلى أنه من الأسهل تسجيل ذلك على الرقم بأشكال معيارية بدلاً من الأشياء الفخارية الصغيرة نفسها. تبع ذلك تسجيل العقود التي لم تكن شيئاً آخر سوى تحديد قيمة المطلوب وتدوين المدفوعات على كرات فخارية يحتوي داخلها على قدر مكافيء من الأشياء الفخارية الصغيرة وذلك بهدف التحقق في حال نشوب خلاف!... ومن هنا بدأت الكتابة فيما نعرفه حتى الآن، من العدّ!... أي أن الكتابة لم تبدأ من أجل تدوين القصائد أولاً!!
الجزء الأساسي من هذه الورقة مأخوذ من: http://www.bbc.com/news/business-39870485
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق