بدأت القصة مع زينو القبرصي، ذي الأصول الفينيقية، ضاعت بضاعته بغرق سفينته بقرب شواطئ أثينا في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد . سار في شوارع أثينا تائهاً مفكراً بأحواله إلى
أن انتهى الأمر به إلى مكتبة أثينا التي كانت تضمن كتابات أفلاطون وخاصة تلك المتعلقة بفلسفة سقراط، وكذلك كتابات أرسطو ومن جاء بعده. درسها وتأمل فيها طويلاً، ودرس
الفلسفة على أيدي فلاسفة أثينا في تلك الفترة. واهتدى بنتيجة ذلك (301 ق.م) إلى
أنه لا ضرورة لتغيير العالم والبحث عن المدينة الفاضلة وإنما الأفضل هو تغيير
النفس عبر التحلي بفضائل يمكن اكتسابها مثل الصبر وضبط النفس والتعقل والتسامح.
وأخذ يشرح ذلك ويدرّسه. وأما تسمية فلسفته هذه بالرواقية فإنما
يعود إلى أن زينو هذا كان يلقي دروسه ويلتقي بأتباعه في ممرات واجهات القصور ذات
الأعمدة، أي في "الأروقة".
وكلمة "رواقي" تشير اليوم إلى من
يتحلى بالهدوء في كل الظروف ولا يتأثر بضغوط الانفعالات. هذا فيما يتعلق بسلوك
الرواقي. ولكن الرواقية تقول إن كل شيء يسير بحسب قاعدة السبب والأثر، وأن الأشياء
مترابطة بشبكة عقلانية من الخيوط، وأن التأثير في أي من هذه الخطوط سينتشر في باقي
أرجاء الشبكة، وأن الأشياء تسير بدون أن يكون لنا السيطرة على مجرياتها التي تؤثر
فينا، ولكن يمكننا السيطرة على كيفية مقاربتنا لها. لذا فبدلاً من تخيل مجتمع
مثالي فإن علينا التعامل مع الحياة بما هي عبر التحسين الذاتي للنفس والتحلي
بالفضائل الأساسية الأربع:
الحكمة: بمعنى القدرة على محاكمة الحالات
المعقدة عبر المعلومات الصحيحة والمنطق والهدوء.
تماسك الذات: بممارسة مقاومة النفس وضبطها والاعتدال
بخصوص كل جوانب الحياة.
العدل: بمعنى التعامل مع الآخرين بإنصاف حتى
لو كانوا على خطأ.
الشجاعة: ليس فقط في الحالات الاستثنائية ولكن
أيضاً في مواجهة تحديات الحياة اليومية بصفاء ونزاهة.
والحياة بحد ذاتها هي شجاعة كما قال سينيكا،
وهو أحد أشهر الرواقيين من الحقبة الرومانية. وعيش هذه الحياة يتطلب التأمل والعيش
بتناغم مع الطبيعة بفضل التعقل، والوصول إلى حالة من "غياب المنغصات" بفضل الابتعاد عما هو شغفي وعاطفي وانفعالي. وهذا ما صاغه أهم
الرواقيين الفيلسوف إبيكتيتوس بعبارة: "تحمّل وامتنع". وهو يقول أيضاً بأننا "لا نعاني من الأحداث نفسها في حياتنا ولكن من نظرتنا إليها وطريقة تفكيرنا بها". وهذا يتلاقى مع التحليل النفسي المعاصر. فنحن من نعطي المعنى للأشياء، في حين أنه يمكن للأشياء أن تتضمن كل المعاني.
ولكن الرواقية ليست موقفاً من الذات، بل هي
موقف من الحياة، أي اشتغال على الذات للوصول إلى حياة هانئة. لذلك يطالب الراواقيون بالتمسك
بالقيم الأخلاقية باعتبارها طريقاً قويماً للحياة. ولهم في ذلك مواقف مشهورة. فقد قاوم
الرواقيون الرومان قوانين العبودية الرومانية التي كانت تعتبر العبيد ملكية خاصة،
وطالبوا بأن يعاملوا معاملة إنسانية وأكدوا على أن البشر لهم الإنسانية نفسها. أي أن
الرواقية لم تكن فلسفة قائمة على انطواء الذات على نفسها بل كانت تطالب أتباعها بأن
يكونوا أصحاب فعل وبأن لا يكونوا مجرد منفعلين. أي أن على الرواقي وفضائله التي
اكتسبها أن يحدث تغيرات إيجابية لدى الآخرين.
سادت الفلسفة الرواقية لعدة قرون في اليونان
وروما، ولا يزال أثرها باق حتى اليوم. اعتنقها المفكر الديني توماس الأقويني في
القرن الثالث عشر وخاصة لتركيزها على تنمية الفضيلة. وهي في الواقع تساعد على صفاء
الذهن وتتلاقى في ذلك مع البوذية السابقة لها بقرنين من الزمن. وقبله اعتنقها الإمبراطور
ماركوس إورليوس الذي دام حكمه نحو 19 عاماً (161-181 ب.م). قاد ماركوس
الإمبراطورية الرومانية الكبيرة في فترة حاولت فيها قوى وجيوش كثيرة مهاجمتها،
وجعل من فترة حكمه فترة "السلام الروماني"، ولم يدر في أيامه سوى معركتين.
وفي مذكراته (أفكار لي لوحدي)، جاء فيها أشياء
كثيرة تقول بترابط الأشياء مع بعضها وبتأثيرها المتبادل، وإليه يرجع قول إن الحاضر
هو الأهم وليس الماضي أو المستقبل، وهو قول جاء في مذكراته هذه التي كانت الكتاب
المفضل لنلسون منديلا أثناء سجنه الذي دام 27 سنة. ومن المعروف أن منديلا شدد بعد
استقلال بلده على السلام والمصالحة إيماناً منه بأن ظلم الماضي لا يمكن تغييره وأن
على شعبه أن يواجه ظلم الحاضر لبناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق