سادت التاريخ الأول حضارتان بارزتان هما
الحضارة السومرية أو حضارة ما بين النهرين، والحضارة الفرعونية. وكان لكل منهما
إنجازات كبيرة في ميادين مختلفة. فكلتا الحضارتان اشتهرتا بالهندسة الطبوغرافية
لضرورة تحديد الأراضي الزراعية التي كانت تطمس حدودها أوقات الفيضانات، فيضانات
النيل أو الفرات. وكلتا الحضارتان قدمتا معارف في الفلك، لأسباب دينية أو للعرافة
والخرافة أو لتحديد المواقع على الأرض حيث لا دليل إلا النجوم. وكلتا الحضارتان
اشتهرتا بهندسة البناء، من بابل وماري ونينوى والأقصر والأهرامات، وإن كانت إنجازات
حضارة الفراعنة في البناء أكثر إبهاراً وإتقاناً وهي باقية حتى اليوم تثير إعجاب
البشر. وهذا البناء كان يتطلب معرفة في الهندسة، هندسة البناء والهندسة
الرياضياتية. ومن الواضح أن معارفهم في هذا المجال الأخير كانت جمّة، وهناك اتفاق
بين مؤرخي العلم على أن نظرية تالس في تناسب أضلاع المثلثات المتشابهة كانت معروفة
للفراعنة قبل تالس بأكثر من ألف سنة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرية فيثاغورث في
المثلث القائم الزاوية فكانت معروفة لدى شعوب ما بين النهرين بألف سنة قبل معرفة
فيثاغورث بها. وكلتا الحضارتان عرفت التداوي وبعض الجراحة كما يشهد على ذلك
التحنيط لدى الفراعنة ومعارف التخمر والتداوي بالأعشاب لحضارة ما بين النهرين.
وكلتا الحضارتان عرفتا الكتابة وكان لكل منهما أبجدية خاصة بها، ومن أبجدية بلاد
ما بين النهرين عرف العالم الأبجدية بشكلها الحالي. وغير ذلك الكثير.
وفي اليونان بدأت حضارة إغريقية بعد ألفي سنة
من حضارتي الفراعنة وما بين النهرين. استفاد ت بالتأكيد من حضارتي الفراعنة وما
بين النهرين ومن غيرهما من حضارات الهند والصين. ولكن عند الحديث عن العلم
والفلسفة فينسب ذلك إلى الإغريق دون الآخرين، فلما حصل ذلك؟
وفي الواقع فإن الحضارات السابقة للحضارة
الإغريقية كانت تنتج معارف ومهارات دون أن تهتم بسؤال: لماذا؟ لماذا تكون النظرية المنسوبة
إلى تالس صحيحة؟ وكيف يمكن التأكد من صحتها، أي برهانها؟ والحال نفسه بالنسبة
لنظرية فيثاغورث: كيف لنا أن نقبل صحة هذه النظرية بدون برهنة صحتها، لذا علينا
برهان ذلك. ومن هنا بدأ العلم وتم تحديد النهج العلمي. والإغريق هم أول من فعلوا ذلك.
أما الفلسفة فبدأت مع السياسة. فقد كانت اليونان مجموعة من الدول-المدن. كل مدينة
شبه مملكة مستقلة. وكل مدينة يحكمها أهلها بنظام تعاوني (ديمقراطي). إذ لم تكن
لهذه المدن ما يكفي من القوة العسكرية لفرض نظام سياسي، أي أنها كانت إلى حد ما "مرغمة"
على الديمقراطية. وهنا بدأت قضايا وأسئلة تدور حول العدل، فما هو العدل وكيف يكون
العدل؟ وهو سؤال لا يزال قائماً لم تنته صلاحيته، وهو أحد أهم أسئلة الفلسفة
السياسية. وكذلك كيف يكون الحكم الصالح والمواطن الصالح، وهذا ما قاد إلى أسئلة
الأخلاق وتالياً إلى فلسفة الأخلاق.
كان التساؤل أهم ميزات الحضارة الإغريقية
وانشغل مفكروها في البحث عن إجابات على تساؤلاتهم. فكيف وجدت المواد والمكونات
والمخلوقات على الأرض؟ وهل من قانون يحكم ذلك؟ من أول من اشتغل في الفلسفة هو
تالس، وهو أحد حكماء الإغريق السبعة، وكان له دور في السياسة، كما أنه من أول
المجتهدين في السؤال عن كيفية الخلق والمحرك الأول للخلق، فقال بأن الماء هو أصل
كل شيء حي، وأن الحياة تكون حيث الرطوبة. وهذه إجابة اعتبرها من جاء بعده ناقصة،
إذ قال بضرورة الهواء، فلا حياة بلا هواء، واقترنت فكرة الهواء بالروح، فعند قطع
الهواء عن أي حيّ يموت... وغير ذلك إلى أن وصلوا إلى نظرية المواد الأربع: الماء
والهواء والنار والتراب، وهذا طبعاً لم يمنع فيلسوفاً مثل ديموقيرطس ليقول
بالنظرية الذرية، وهو قول سفهه آخرون مثل أفلاطون وأرسطو. أي أن حرية الفكر كانت
قائمة يمكن لأي كان أن يدلي بدلوه، ولكن عليه أن يكون عاقلاً متعقلاً حتى يمكن الاستماع
إليه... تفاصيل القصة طويلة لكن فيما سبق أول العناصر...
وفي إجابة لأحد المختصين عن تفسير منطقي
للموروث الإغريقي الفكري الهائل، أجاب: السبب أمران: لغة متطورة غنية بالمفردات والتعابير
لا نزال ننهل منها (اليونانية القديمة)، وديمقراطية سياسية وحرية فكرية خلقتا
مناخاً ينمو فيهما الفكر ويتطور ... ولم يتوقف ذلك إلا مع حكم العسكر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق