فيما يلي ترجمة لنصين من كتاب بيير رابحي "تقارب الضمائر" المنشور عام 2017.
جدتي:
ولدت جدتي لأسرة من الرحّل واستقرت
في الحضر إثر الزواج. كان لها حسٌّ ممتاز ناتج عن تلك المعرفة التي نحصل عليها من
التجربة. كانت عندما تنفخ مصباحها البترولي لتطفئه، قد عرفت بالسليقة، وهي
ابنة الصحراء، أن هذا السائل هو "قيح الأرض" بحسب تعبيرها، وأنه كان لزاماً
"تركه حيث وضعه الله" إذا أردنا ألا يسمم العالم...
السليقة شكل
من أشكال الذكاء العفوي، ذكاء الكائنات المرتبطة بدفق الكلام الصامت. لقد كبحنا
هذا النمط من المعرفة بواسطة العقل المفكر. إنسان اليوم مهلوع بالعقلانية،
الضرورية ولكنها أصبحت استئثارية تستبعد الواحد والآخر، ويرفض استقبال الكلام الطيب
اللمّاح. وكل ما لم يقبله العقل والعلم يُركِنُ من ثمّ على رفوف الشعوذات
والحماقات.
إن رؤويتنا
هذه قاصرة بالقدر نفسه. ولم يسبق أن وجدت حضارة تتسم بالادعاء بقدر هذه الحضارة
"البترولية"!
إن وعود ومعجزات الإنسان الاقتصادي أصابته بالرمد
وحعلته كسفينة حرب قديمة هائلة تبحر بلا بصر أو بصيرة باتجاه المجهول: "استدر
كيفما أردت وشئت إلا أن ظهرك سيبقى خلفك" كما كانت تقول جدتي بكل حكمة...
ارستقراطية وحسن وفادة:
الاستضافة هي من فضائل العوالم
التقليدية. فالله من يرسل الغريب، إنه عابر السبيل، واستقباله من المقدسات. لم نكن
نوصد الأبواب بالأمس. كل شيء كان بسيطاً. لدرجة أنه إذا جاء أحد بغير انتظار، كان
يجلس ويتشارك الطعام بلا قيود ولا عهود. كانت المائدة مستديرة تشيع المساواة بين الجميع
حولها، والتشارك كان يمنع الإفراط ويدخل حالة راقية من الانضباط وحسّاً بالمسؤليات
إزاء الغذاء الجماعي. ومفهوم التشارك والإنصاف هو مفهوم أساسي. فاللحم يوضع في
منتصف الطبق يوزعه شخص يضمن الإنصاف والتقاسم.
هذه الطقوس تتسم بالرقيّ لأننا نضع
فيها بعضاً من الروح.
الأمر نفسه بالنسبة لتقاسم الماء
الضروري للحياة والرمزي. كان كل شيء فيما مضى يجري وفق الضمير وكان المرء يفقد
كرامته حين يتخلى عن الصيغة الجماعية. وفي الحقيقة فإن هناك دروساً يمكن استخلاصها
من تلك الطقوس الاجتماعية التي شذبتها السنون بقدر ما شذّبت آداب السلوك أيام
طفولتي الصحراوية. كان هناك فعلاً صيغة استقراطية حقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق