شرعت في إعداد نفسي للرحلة الخامسة، تدفعني رغبة ملحة، ويحدوني أمل كبير لا
سيما أنه في كل رحلة من رحلاتي السابقة كانت تظلم الدنيا في وجهي، وينقطع بي
الأمل، ثم لا تلبث أن تضيء، فأنجو وأكسب وأعود إلى أهلي. وتجهزت ببضائع ذات قيمة
غالية، وتوجهت إلى مدينة البصرة فشاهدت في مينائها سفينة كبيرة، فرغبت في شرائها،
وانتقلت ملكيتها إليّ. وجاء بعد ذلك جماعة من التجار، فأتوا ببضائعهم بعد أن دفعوا
إلى أجر حملها. وانطلقنا إلى أن ألقى بنا المطاف في جزيرة بدت لنا قفراء جرداء،
فيها قبة بيضاء لاحت لنا من بعيد. وغادر التجار والبحارة السفينة إلى الجزيرة
لاستكشافها. وبعد قليل رجع أحد البحارة وطلب إليّ أن أصحبه لمشاهدة البيضة العجيبة
التي حسبناها قبة. وما كدت أقترب منها حتى رأيت الرجال يضربونها بالحجارة، وسال
منها ماء كثير، وفطنت أنها بيضة رُخٍّ، وبدا فرخ الرخ فيها.
وفجأة انتشر الظلام فوقنا، فرأينا أجنحة الرخ مبسوطة كالغمامة، فصحت
بالركاب: انشدوا السلامة وأسرعوا بالصعود إلى المركب. ودوت في الفضاء صرخة الرخ
كالرعد القاصف، وصحت على الربان والبحارة: ادفعوا بالمركب قبل أن نهلك.
وما كان أشد فزعنا حين رأيناهما رخين، قد أقبلا نحونا وأخذا يحومان حول
المركب ويرسلان أصواتاً منكرة، وبين رجلي كل منهما صخرة عظيمة. ألقى ذكر الرخ
صخرته وفي تلك اللحظة حوّل الربان سير السفينة فسقطت في الماء، ثم ألقت أنثى الرخ
بصخرتها فنزلت بمؤخرة السفينة فكسرتها، ومالت السفينة ثم انقلبت بنا، فغرق لساعته
من غرق، وطوحت الأمواج بمن طوحت. وجاهدت أنا حتى تشبثت بلوح من ألواح المركب
المتناثرة، واعتليته، ثم لم ألبث طويلاً حتى لاحت أشجار الجزيرة التي غرق المركب
بالقرب منها، فجاهدت بالتجديف بساقي إلى أن بلغت الشاطئ. واستلقيت عليه وقتاً من
الزمن، ثم نهضت وتمشيت في هذه الجزيرة، فرأيتها كأنها روض من رياض الجنة. وسرت في
الجزيرة أستكشف مأواي الجديد. وفي مكان متسع فيه عين ماء أبصرت شيخاً جالساً على
حافة الساقية وقد ائتزر بإزار من ورق الأشجار. فدنوت منه وقلت له: يا شيخ ما السبب
في جلوسك في هذا المكان؟ فحرّك رأسه متأسفاً وأشار لي بيده أن أحمله وأنقله إلى
الناحية الأخرى، فأشفقت عليه لضعفه ووحدته، فحملته على كتفيّ، وذهبت به إلى
الناحية الأخرى، ورفقت به وقلت له انزل على مهلك.
لكنه لم ينزل بل لف ساقيه حول رقبتي، وكانتا كجلد الجاموس خشونة وسواداً،
ففزعت منه، وأردت أن ألقيه من فوق كتفي. ولكنه ازداد ضغطاً بساقيه حول رقبتي وزاد
ضغطه حتى اسودت أمامي الدنيا. وأخذ يضربني على ظهري
وصدري ضرباً موجعاً. وأشار لي أن أدخل به بين الأشجار حيث الفواكه الطيبة، ينتقي
منها ويأكل.
مرت بي أيام وأنا على هذه الحال الشائنة، وذلك الطاغوت جاثم على كاهلي. وصرت
أسيراً ذليلاً، نادماً على ما فعلته من خير لهذا الشيخ، وزادني ألماً يأسي من
التخلص منه. وبقيت على هذه الحال السيئة أياماً، لا يُجدي استعطاف ولا استرحام.
حتى كنت سائراً ذات يوم وهو على كتفي في أنحاء الجزيرة، فوجدت يقطيناً
كثيراً قليله رطب وكثيره يابس، فخطرت لي فكرة: أخذت يقطينة كبيرة وأفرغت جوفها،
وذهبت إلى كرمة العنب، فملأتها عصيراً، ووضعتها في الشمس وتركتها أياماً حتى صارت
خمراً.
وكنت أذهب إليها كل يوم وأظهر عنايتي فيها، فسألني عنها، فأجبته: إن هذا
عصير من العنب، إذا شربه المرء، أكسب جسمه قوة. فقال إني أحب أن أشرب منه معك.
فوضعت اليقطينة على فمي كأني أعب منها عباً، ولكني لم أشرب منها شيئاً، فأمرني
فأعطيته إياها، وجعل يعب ما فيها، وما هي إلا فترة حتى ذهب شعوره وفقد إحساسه،
فألقيته على الأرض جثة قذرة، وأنا لا أصدق أني قد نجوت من ذلك الكابوس الخانق الذي
لزمني تلك الأيام المريرة الطويلة.
وخشيت إذا ما أفاق أن يؤذيني، فجئت بصخرة عظيمة وضربته على رأسه، وذهبت
روحه إلى الجحيم. وخلت لي الجزيرة فسرت أرتاض فيها وأنا مطمئن النفس، آكل من
ثمارها.
وداومت على الذهاب إلى الشاطئ ومراقبة الأفق، لعلني ألمح سفينة مارّة،
تأخذني معها وتحملني إلى أرض الوطن. وأصبحت يوماً فإذا بسفينة قد ألقت مراسيها
بالقرب من الجزيرة. وبدافع لا شعوري وجدت نفسي أهرول نحوها، كطفل وجد أمه بعد طول
غياب. ورآني القوم فالتفوا جميعاً حولي، يسألوني عن أمري وعن سبب وجودي بالجزيرة.
فأخبرتهم خبري، وقالوا لي إن هذا الشيخ الذي ركب عليك يسمى شيخ البحر، وما من أحد
دخل تحت قبضته وخلص منه إلا أنت. وبعد أن طافوا بالجزيرة عادوا إلى سفينتهم،
وركبوا وأنا معهم.
وأقلعت بنا وسارت الأيام والليالي، إلى أن ألقت بنا الأقدار في مدينة عالية
البناء جميع بيوتها مطلة على البحر يقال لها مدينة القرود؛ لأنه عندما يأتي الليل
يخرج جميع سكانها من الأبواب المطلة على البحر، ويبيتون في الزوارق والمراكب خوفاً
من القرود التي تزحف عليهم في الليل كالجراد المنتشر في أعالي الجبال تبغي ثمار
البساتين.
زاولت في هذ المدينة مهنة جمع جوز الهند. ومرت الأيام وأنا أجمع جوز الهند
الطيب الذي سيكون بضاعتي إذا ما أقبلت سفينة للتجارة فيه، حتى إذا أقبلت السفينة
المنشودة، كانت فرحتي بمجيئها لا تقدر.
مرت السفينة على جزر كثيرة، وكلما رست في إحدى الموانئ أبيع وأقايض بما معي
من جوز الهند. ثم مررنا على مغاص اللؤلؤ. فأعطيت الغواصين شيئاً مما معي من الهند
وقلت لهم: غوصوا غوصة من حظي ونصيبي. فغاصوا وطلعوا ومعهم شيء كثير من اللؤلؤ
الغالي. وقالوا لي: والله يا سيدي إنك لجد سعيد. وأعطوني ما أخرجوه.
ثم سرنا على بركة الله
شطر البصرة، فبلغناها بعد زمن قصير. وتوجهت منها إلى بغداد وكليّ شوق إلى رؤية
أهلي وأصحابي.الرحلة السادسة الرحلة الرابعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق