تدرجت الطائرات في سرعاتها وبلغت أكثر من ألفي كيلومتر في الساعة، وهي سرعات مطلوبة في المسافات الطويلة التي تقطع فيها محيطات وبحور. فالرحلة من بيروت مثلاً إلى فانكوفر في غربي كندا تحتاج إلى عشرين ساعة في الطائرات النفاثة الحالية التي تسير بسرعة قرابة 800 كم في الساعة، هو أمر منهك للغاية، عدا عما يتطلب ذلك من وقت للتخلص من عناء السفر ومشاكل فروق الوقت!
وفي الواقع فقد ظهرت
مشاريع في سبعينيات القرن الماضي لصنع طائرات تطير بأعلى من سرعة الصوت، من بينها
مشروع أمريكي وآخر سوفيتي وغيره بريطاني وأخيراً مشروع فرنسي. كل لحاله يريد أن
يكسب أسواقاً واعدة للمسافات الطويلة، من أوروبا غرباً وشرقيا وإليها. كانت
التقديرات الأولية بحاجة شركات الطيران الكبيرة إلى مئات الطائرات.
بدأت هذه الدول
بالعمل على تصميم وتنفيذ طائرة فوق صوتية، أي طائرة سرعتها بأعلى من سرعة الصوت (سرعة الصوت هي 1224 كم في الساعة في جو عادي وجاف بدرجة حرارة 20 مئوية). في
الولايات المتحدة عملت شركتا لوكهيد وبوينغ على إنشاء طائرة بسرعة
2.7 سرعة الصوت وتتسع لـ 300 راكب. توقفت مشاريعهما مع قرار إدارة الطيران
الفيدرالية بمنع طيران طائرات مدينة بسرعات فوق صوتية فوق الأراضي الأمريكية بسبب
الضجيج الذي تحدثه هذه الطائرات.
وفي الاتحاد
السوفيتي أيضاً كان العمل يسير على قدم وساق لإنتاج مثل هذه الطائرة التي تحتاجها
روسيا ذات المساحة الأكبر في العالم، التي تمتد
أراضيها من جوار اليابان شرقاً إلى السويد غرباً. توصل الاتحاد السوفيتي إلى بناء
طائرة توبوليف وبدأت رحلاتها التجريبية في عام 1968 بسرعة أكثر من ضعف الصوت
وقادرة على نقل 120 راكباً، أخذت بنقل الركاب في نهاية عام 1975 من موسكو إلى
ألما آتا في كازاخستان، ولكنها كانت متعثرة، فقد سقطت مرة في معرض للطيران في فرنسا
في طيران تجريبي عام 1973، وكذلك في عام 1978 في طيران تجريبي لنموذج جديد من هذه
الطائرة. وتوقف استخدامها نهائياً في عام 1999.
طائرة التوبوليف الروسية |
في فرنسا وفي
بريطانيا بدأت الدولتان بتمويل مشاريع منفصلة، ولكن نظراً للكلفة الكبيرة قررت
الحكومتان العمل على مشروع مشترك. وهكذا كان مشروع طائرة الكونكورد. بدأت تجاربها
في مطلع عام 1969، واستعملت في نقل الركاب اعتباراً من كانون الثاني عام 1976،
بسعة 100 راكب وسرعة أكثر من ضعف الصوت، مكنتها من قطع المسافة بين باريس ونيويورك
بزمن أكثر من ثلاث ساعات بقليل، أي نصف الزمن الذي تحتاجه طائرات النقل الحالية.
طائرة الكونكورد |
وبالرغم من أن الكثير من الشركات العالمية طلبت شراء عدد من طائرات الكونكورد في الستينيات، لكن معظم الشركات تراجعت عن طلبها لسببين رئيسيين: استهلاك مثل هذه الطائرة الكبير للوقود، من جهة ثانية الضجيج العالي الذي تحدثه أثناء طيرانها، مما جعل الكثير من الحكومات تمنع هذه الطائرة من الهبوط في مطاراتها. وبذلك لم يبق سوى بريطانيا وفرنسا زبائن لهذه الطائرة.
جاء حادث اشتعال هذه الطائرة لحظة إقلاعها من باريس في طريقها إلى نيويورك وموت طاقهما وكذلك 99 راكباً على متنها عام 2000، ليؤدي إلى إيقافها نهائياً عام 2003.
اشتعال طائرة الكونكورد في 25 تموز عام 2000 |
ولكن القصة لم تنته هنا، ذلك أن زمن السفر طويل، وهناك حاجة كبيرة لطائرات بسرعة كبيرة. لذا قام الناسا (مركز الأبحاث الفضائي الأمريكي) بالعمل على طائرة سريعة جديدة، على الأقل لا تثير الضجيج الذي كانت تحدثه الكونكورد، وربما أيضاً لا تستهلك القدر نفسه من الوقود. تشير التقارير إلى أن تجارب المحاكاة وتجارب الأنفاق الهوائية على النماذج المصغرة الأولى كانت ناجحة، لكن تحتاج المسألة إلى بناء نموذج تجريبي بأبعاد حقيقية وطيران في السماء، على مبدأ: أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي!
بقي أن نقول إن خلافاً نشب بين الفرنسيين والإنكليز على كيفية كتابة كونكورد: فالفرنسيون يكتبونها concorde والإنكليز يكتبونها concord أي بلا e، وكبر الخلاف بين الطرفين وكاد يصبح شقاقاً إلى أن تدخل وزير التقانة البريطاني طوني بن وقال: علينا استخدام الكتابة الفرنسية لأن e تعني Excellence (التميز) وتعني England وتعني Europe وتعني، وهو الأهم Entente، أي التفاهم! أما concorde نفسها فتعني: توافق القلوب والإرادات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق