مهنة الطب هي من بين أهم المهن
التي تهتم بالإنسان، فهي معنية بعلاج الأمراض والوقاية منها وكل ما يرتبط بصحة الإنسان. أخذت
منذ بدايتها طابعاً إنسانياً أخلاقياً من حيث الوجوب على كل طبيب أن يفعل كل ما
بوسعه لمساعدة مريضه على الشفاء كائناً من كان هذا المريض، ووجوب تقديم معلومات
الطب إلى طالبيها إلى آخر ما هنالك من اعتبارات لخصها قَسَم أبقراط الشهير.
تقدمت المعرفة الطبية بمرور الزمن،
وأصبح الطب علماً يُدرّس في الجامعات منذ قرون عديدة. ومع
مرور الوقت ظهرت التخصصات الطبية بسبب كثرة المعارف التي لا يمكن للطبيب العام أن
يدرسها، فهي تحتاج من شخص عادي أن يفني عمره كله في دراستها! وبما أن التقدم
العلمي والتقاني لا يتوقف بدأت قضايا عديدة تظهر في العلاقة بين الطبيب والمريض،
وهي علاقة حساسة بطبيعتها، فالمريض ينتظر من الطبيب أن يقدم له العلاج الشافي
والطبيب يقع تحت مسؤولية الوصول إلى تقديم العلاج الصحيح. مثل هذه العلاقة كانت
موجودة إلى حد كبير بين المريض والطبيب، العام خصوصاً، ولكن التطور التقاني ساهم في
تحويل هذه العلاقة إلى علاقة باردة بين شخص (مريض) متلق وطبيب معالج يعتمد على
معطيات المخابر والتحاليل والصور وبنوك المعلومات والنظم الخبيرة (الذكاء الصنعي) ويستخدم
آلات مبرمجة للقيام بعمليات كان يقوم بها هو بنفسه. لقد توقف الطبيب عن التشخيص
الذي كان ينشئ علاقة بين المريض والطبيب عبر السؤال والجواب، وأصبح المريض بالنسبة للطبيب مجرد كائن
يجمع عنه المعلومات بمختلف التقنيات، وأصبح الطبيب مخزن معلومات يقدم برنامجاً
للعلاج دون أي تفسير حتى.
بدأت جامعات أوروبية عديدة بالتفكير بمراجعة هذه المسألة،
وأخذت بإقامة ورشات عمل باتجاه إعادة الصفة الإنسانية إلى العلاقة بين الطبيب
والمريض. فمريض اليوم في أغلب الأحوال شخص متعلم يجب أن يكون جزءاً من برنامج
العلاج بأن تقدم له كل الشروح عن مرضه وإمكانيات تطور المرض والعلاج وأبعاده وكل
ما يلزم بحيث يكون المريض عارفاً بما لديه وما عليه، ومختلف المراحل التي سيمربها كل ذلك. من جهة أخرى فإن هذه العملية
تخلق جواً تعاطفياً بين الطبيب والمريض بالضرورة، علاقة إنسان بإنسان. كذلك، تفرض الوقائع الراهنة
قرارات طبية دقيقة، لجزء لا بأس به أبعادٌ أخلاقية، لذا قررت هذه الجامعات أيضاً
إقامة ورشات في فلسفة الأخلاقيات لأطباء المستقبل تعينهم في المستقبل على اتخاذ
قراراتهم بمساعدة المريض أو ذويه. بعض الجامعات جعلت من الأمرين مقرراً يدرسه الطالب في سنواته الأخيرة كأي مقرر طبي آخر.
بقي أن نقول إن هذا ليس بالشيء الجديد، فقد عُرف منذ القدم أن مراعاة الحالة
النفسية للمريض هي من أهم جوانب العلاج، ومن الجيد أن جامعات أخذت في معالجة
العلاقة بين الطبيب والمريض مع إصرار على إنسانيتها، معترفة بأن التقدم العلمي
والتقاني ليسا كافيين لوحدهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق