للمدرسة بنمطها الحالي من العمر أكثر من
قرن من الزمان. بمعنى أنها دأبت على
تدريس "المواد" الدراسية مثل اللغة/اللغات والتاريخ والحساب/الرياضيات،
والجغرافيا والفلسفة والفيزياء وغير ذلك. من الصحيح أن هذا النمط من التدريس يقدم
للطلاب معلومات في مجال ما محدد، كما يسمح للمعلمين أن يكونوا مختصين في مادة ما،
وهو أمر قد يكون مطلوباً في الصفوف المتقدمة، حيث لا يمكن مثلاً، من حيث المبدأ،
لمدرس التاريخ أن يدرس الرياضيات في المرحلة الثانوية. ولكن لهذه الطريقة محذورها
الكبير في أنها تفصل المواضيع عن بعضها وتفقدها معناها وجدواها. فالطالب يتساءل عن جدوى الكثير من المواد التي يدرسها دون أن يجد جواباً شافياً على سؤاله. ويجد أن بعضهاً مقيتاً مثل الحساب وقواعد اللغات وغيرها.
ولحل هذه المسألة، انفردت فنلندا من بين دول
العالم بتدريس "المواضيع"، وليس "المواد". حيث يحتاج فهم
موضوع ما إلى تقديم معارف من مختلف "المواد"، وهذا سيقود إلى تعلم محتوى المواد، دون أن تكون مفصولة، باعتبارها ضرورية لفهم الموضوع. وهذه المواضيع تتصل
بالحياة اليومية. فمثلاً يتطلب العمل في مقهى من النادل أن يتعلم أصول التخاطب،
وأن يتعلم لغة أجنبية للتخاطب مع الأجانب، وأن يتعلم الحساب والكتابة لتسجيل
الطلبات. وموضوع مثل "الاتحاد الأوروبي" يتطلب الحديث في التاريخ،
والجغرافيا، والاقتصاد واللغات...وكذلك البحث عن الحالة الجوية في مختلف المدن
الأوروبية عبر موقع وب إنكليزي، حيث سيتعلم الطلاب بعضاً من الإنكليزية والجغرافية
والبيئة.
هذا النمط من التدريس سيجعل ترتيب الصف
مختلفاً. فبدلاً من الجلوس في صفوف متوازية والاستماع إلى المعلم، سيوزع الطلاب في
مجموعات صغيرة حول طاولة مستديرة للعمل معاً على حل موضوع ما، وطرح الأسئلة التي
على المدرس أن يجيب عليها. كما أن بعض المواضيع تدرس عبر اللعب أو ما يشبه اللعب، بما يثير البهجة والحماس لدى الطلاب. مثل الذهاب إلى المكتبة للبحث عن معلومات عن أفريقيا التي قد يكون بعضهاً موجوداً على جدران ممرات المدرسة.
هذا النمط من التدريس آخذٌ في التعميم على كل
مدارس فنلندا للطلاب حتى سن السادسة عشر. وبالطبع، فقد أثار هذا النمط رفض العديد
من المدرسين والمديرين في البداية. لكن الواقع الحالي يفرض تغيراً في نمط التعليم.
فموظف البنك أو موظف الدولة بأدوات التواصل التي يملكها اليوم، لا يشابه أمثاله في
بداية القرن العشرين. وكذلك المحامي الذي عليه أن يتعامل مع قضايا أوروبية أو مع أناس
من ثقافات مختلفة وليس فنلندية حصراً. وكذلك الأمر بالنسبة لباقي المهن، ومنه
الحاجة إلى نهج جديد في التعليم. ولتحقيق ذلك أُخضع المدرسون إلى دورات تدريبية
مطولة.
أصبحت هلسنكي،عاصمة فنلندا،
اليوم مدينة يحج إليها خبراء التعليم في أوروبا والعالم للوقوف على سر هذه التجربة. بعض
الدول أخذت في تقليدها ولكن بمقاربات مختلفة، والبعض الآخر لا يزال متمسكاً بنظامه
القديم، علماً بأن النظام الفنلندي الجديد هو النظام التعليمي الذي كان سائداً قبل
القرن التاسع عشر، ولكن بدون الأدوات الإدارية والتربوية المتوفرة اليوم، وكذلك وسائل التعليم المتقدمة، وأخيراً علاقة المدرسة بالطالب، خاصة من حيث حقوق الطالب التي لم تكن موجودة بالكامل.
بقي أن نقول إن نظام التعليم الفنلندي عموماً، وقبل هذا التحول الأخير، مختلف عن غيره في العالم منذ عدة عقود في جوانب عدة، وخاصة جوانبه التربوية ومقاربته التعليمية، وهو ما سنعود إليه في المقال اللاحق.
بقي أن نقول إن نظام التعليم الفنلندي عموماً، وقبل هذا التحول الأخير، مختلف عن غيره في العالم منذ عدة عقود في جوانب عدة، وخاصة جوانبه التربوية ومقاربته التعليمية، وهو ما سنعود إليه في المقال اللاحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق