كثيرة هي الأفكار والتحليلات والتصورات
التي أدت إلى اعتقادات راسخة دون أن يكون لها سند راسخ، وإنما هي نتيجة لقيل عن
قال، يليه مع الزمن تسليم، ويصبح الأمر في حكم القانون خاصة إن ساند ذلك من عُرفَ
عنه سعة المعرفة ورجاحة التفكير. مثل هذا الأمر ينطبق على مجمل مجالات الحياة، من
العلم إلى الفكر إلى المعتقدات الدينية والثقافية.
ففي العلم سادت فكرة تسطح الأرض ومركزيتها
قروناً طويلة إلى أن قال البولوني كوبرنيكوس بعكس ذلك. وهو قاله بنوع من التردد
لأنه عايش الأفكار السابقة وآمن بها وكان يخشى أن تكون أفكاره غير صحيحة. وهناك من
يقول بأن كوبرنيكوس مات مشككاً بصحة أفكاره. ساند فكرة مركزية الأرض خلق كثير من خيرة مفكري عصورهم.
وكم ساد في الطب من أفكار واعتقادات هي
أقرب للدجل منها لأي شيء آخر, ولم تتمكن أفكار ارتباط المرض بالفيروس والبكتيريا
من قبول الأطباء إلا بعد جهد جهيد. فعالم مثل باستور عانى الكثير قبل إقناع
الناس والأطباء بضرورة اتباع قواعد النظافة الأولية لتجنب المرض. فقد كان الأطباء
في أيامه يعاينون مريضاً إثر مريض دون اتخاذ أية احتياطات تمنع أن يكونوا هم
أنفسهم وسائل انتقال المرض من مريض إلى آخر، مثل غسل أيدهم! سخر من باستور أطباء كبار معروفين في أيامه.
وجها عملة نحاسية للخليفة عبد الملك في نهاية القرن السابع الميلادي |
كذلك الأمر في المعتقدات. فقد ساد في
أديان، ومنها الإسلام، تحريم الصورة. ومع أن القرآن لا يتضمن أي نص بهذا الخصوص،
ولكن رجال الدين قالوا بتحريمه بناء على جملة من الأحاديث المنقولة عن الرسول منها
"لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة"، وهو حديث لا يمكن
لأحد أن يؤكد صحته بطريقة مطلقة، وإنما هو قيل عن قال. وإذا كان الأمر كذلك فكيف
يمكن أن نفسّر أن الخليفة عبد الملك بن مروان سك عملة نحاسية عليها صورة يعتقد أنها صورته
تماشياً مع ما جرت عليه بيزنطة وأباطرتها. وكذلك وجدت رسوم وصور تعود للعصر الأموي
وللعصر العباسي وفي مناطق مختلفة من الديار الإسلامية دون أن يعتبر ذلك محرّماً.
من الصحيح أن الرسوم والصور لم تنتشر في الدول الإسلامية المتعاقبة حتى القرن
السادس عشر، ولكن الحضارة الإسلامية لم تترك الكثير من الآثار المعمارية، باستثناء
الأندلس، إذ إن الحضارة الإسلامية هي حضارة فكرية بالدرجة الأولى. والأهم من ذلك
عدم وجود نص قرآني يحرّم التصوير. هناك آيات تشير إلى الأصنام وتزدريها لإيمان بعض
أهل الجاهلية بها كآلهة ترتجى.
كثيرة هي الأفكار التي تحتاج إلى
مراجعة دائمة، فما اعتقد أنه صحيح بالأمس هو ليس كذلك بالضرورة اليوم... وفي كل
الأحوال فإن الناس تسير، في بعض الأحيان، بعكس بعض المعتقدات، فالهاتف الجوال
الذكي وكذلك آلات التصوير تنتشر في العالم الإسلامي بقدر ما تنتشر في بقية أرجاء
العالم... ومثلما أن الناس تسير بعكس بعض المعتقدات الواهية فهذا لا يمنع أنها
تنتج معتقدات أو سلوكيات ليست بالضرورة عاقلة ... فالفرنسيون الذين قاموا بثورتهم في
نهاية القرن الثامن عشر مطالبين بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، كانوا مؤيدين
لبلدهم في استعمارها لدول كثيرة، منها الجزائر وفيتنام في القرن التاسع عشر،
لاعتقادهم بأن في ذلك مصلحة لهذه البلدان ... ولكن كيف لاستعمار أن يجلب حرية أو
عدالة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق