من كتاب: رأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي
كانت رؤية معظم
المراقبين الاقتصاديين في القرن الثامن والتايع عشر –وليس فقط مالتوس ويونغ- سوداوية نسبياً، مروعة
حتى، بخصوص التطور على المدى البعيد لعملية توزع الثروات وللبنية الاجتماعية. وهذه
كانت حال دافيد ريكاردو وكارل ماركس، وهما بلا أدنى شك الاقتصاديين الأكثر
تأثيراً في القرن التاسع عشر، اللذان يتخيلان بأن مجموعتين اجتماعيتين صغيرتين –
ملاك الأراضي لدى ريكاردو، ورأسماليين صناعيين لدى ماركس- كانت في طريقها
حتماً إلى أن تملك جزءاً متزايداً دائماً من الإنتاج والدخل[1].
وبالنسبة لريكاردو، الذي نشر في عام 1817
"مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة"، حيث يتوجه الهم الأساسي نحو زيادة ثمن الأرض ومستوى إيجار الأملاك على المدى البعيد. ومثله مثل مالتوس، لا يملك
عملياً أي مصدر إحصائي جدير بهذه التسمية. ولكن هذا لا يمنعه من أن يكون له معارف
مقربة من رأسمالية زمانه. وهو سليل عائلة ماليين يهود من أصول برتغالية، ويبدو من
طرف آخر أنه كانت له أحكاماً سياسية مسبقة وإن كانت أقل من مالتوس أو يونغ أو سميث. وهو
متأثر بنموذج مالتوس ولكن يمضي بالتفكير بعيداً. فقد اهتمّ على وجه الخصوص
بالمتناقضة المنطقية الآتية: اعتباراً من اللحظة حيث يكون التزايد السكاني
والإنتاجي مستمراً على نحو مستديم، فإن الأرض تنحو لأن تكون نادرة أكثر فأكثر
بالنسبة للملكيات الأخرى. ومن الضروري أن يقود قانون العرض والطلب إلى ارتفاع
مستمر في ثمن الأرض والإيجارات المدفوعة لملاك الأراضي. ومؤقتاً، فإن هؤلاء ستكون
لهم حصة أكثر فأكثر أهمية من العائد الوطني، وبقية السكان سيكون لهم حصة ستتناقص
شيئاً فشيئاً، وهذا سيكون مدمراً للتوازن الاجتماعي. وبالنسبة لريكاردو فإن المخرج
المنطقي والسياسي المناسب الوحيد هو الضريبة المتزايدة بلا توقف على إيجار
الأملاك.
سنرى أن هذه النبوءة المتشائمة ليست محققة:
فمن الصحيح أن أجور الأملاك قد بقيت لفترة عند مستويات مرتفعة، لكن في النهاية فإن
قيمة الأراضي الزراعية قد تراجعت لا محالة بالنسبة إلى أشكال أخرى من الثروات،
وذلك مع التراجع المستمر لوزن الزراعة في العائد الوطني. لم يكن لريكاردو، الذي كتب في سنوات 1810، بالتأكيد
أن يتوقع مسبقاً حجم التقدم التقني والنمو الصناعي الذي كان في طريقه للحدوث في
القرن الذي كان في بدايته. والشيء نفسه بالنسبة لمالتوس ويونغ، فلم يتمكنا من تخيل
بشرية متخلصة تماماً من القيود الغذائية والزراعية.
ولكن حدسه عن ثمن الأرض لا يزال مثيراً للاهتمام: إن
"مبدأ الندرة" الذي يعتمد عليه كان له القدرة على السير ببعض الأسعار
لتأخذ قيماً عظمى خلال عقود طويلة. وهذا يمكن أن يكون كافياً إلى حد كبير لزعزعة
استقرار مجتمعات بأكملها. يمارس نظام الثمن دوراً لا يمكن الاستعاضة عنه لتنسيق
أفعال ملايين الأفراد –وربما مليارات الأفراد في إطار اقتصادالعالم الجديد.
المشكلة هي أنه لا يعرف لا حداً ولا أخلاقاً.
سيكون من الخطأ إهمال أهمية هذا المبدأ
بالنسبة لتحليل التوزيع العالمي للثروات في القرن الواحد والعشرين –ويكفي للاقتناع
بذلك باستبدال نموذج ريكاردو لثمن الأرض الزراعة ووضع السكن الحضري في
العواصم الكبيرة مكانه، أو ثمن البترول. وفي الحالتين، فإذا مددنا على الفترة 2010-2050
أو 2010-2100 التوجه الملاحظ أثناء الفترة 1970-2010، فهذا سيصل بنا إلى لا
توازن اقتصادي واجتماعي وسياسي ضخم للغاية، بين البلدان وداخل البلدان نفسها، الذي لا
يبتعد كثيراً عن جعلنا نفكر في الجحيم الريكاردوي.
من المؤكد، من حيث المبدأ، وجود آلية
اقتصادية بسيطة جداً تسمح بتوازن العملية قوامها العرض والطلب. فإذا كانت بضاعة ما
معروضة بما لا يكفي وإذا كان سعرها مرتفع جداً، فسيتراجع الطلب عليها،
وهذا ما سيدفع إلى التوازن. بكلام آخر، إذا ارتفعت أسعار العقارات والبترول، فيكفي
حينئذ الذهاب للسكن في الريف، أو استعمال الدراجة (أو الاثنين معاً). ولكن شيئاً آخر
غير هذا يمكن أن يكون مزعجاً ومعقداً، وأن يحتاج التصويب إلى عدة عقود من
السنين، التي أثناءها يمكن لمالكي العقارات والبترول مراكمة ديون على الآخرين
كبيرة لدرجة أن هؤلاء المالكين سيجدون أنفسهم ملاكاً دائمين لكل ما يمكن امتلاكه،
بما في ذلك الريف والدراجات[2].
وكما هي العادة، فإن الأسوأ ليس بالمؤكد أبداً. إنه لمن المبكر جداً القول للقارئ
بأنه سيدفع أجرة بيته لأمير قطر قبل عام 2050: هذا السؤال سنتناوله في حينه،
والجواب الذي سنقدمه هو بالتأكيد جواب غير قطعي، ولكنه مطمئن وسطياً. ومن
المهم إدراك أن موضوع العرض والطلب لا يمنع إطلاقاً مثل تلك الإمكانية،
أي تباعد كبير ودائم لتوزيع الثروة المرتبط بالحركات القصوى لبعض الأسعار النسبية.
هذه هي الرسالة الأساسية لمبدأ الندرة الذي قدمه ريكاردو. نحن لسنا مجبرين على
اللعب بالنرد.
[1] يوجد بالطبع مدرسة ليبرالية تنحو أكثر نحو
التفاؤل: يبدو أن أدم سميث مجبول بها، وفي الواقع لا يسأل نفسه حقيقة السؤال الخاص
بإمكانية التمايز بتوزع الثروات على المدى البعيد. وكان هذا هو حال جان باتيست ساي
(1767-1832)، الذي يعتقد هو أيضاً بالتناغم الطبيعي.
[2] الاحتمال الآخر هو بالطبع زيادة العرض،
باكتشاف مصادر أخرى للنفط (أو لمصادر جديدة لطاقة، أكثر نظافة إن أمكن)، أو بخفض
كثافة السكن الحضري (مثل بناء مباني بعدد طوابق أكثر)، والذي سيخلق مشاكل أخرى.
وفي كل الأحوال فإن هذا سيستغرق عقوداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق