من كتاب: رأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي
في عام 1867 نشر ماركس الجزء الأول من
كتاب "رأس المال"، أي بعد نصف قرن تماماً من نشر ريكاردو لمبادئه، ولكن كانت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية حينها قد تبدلت كثيراً مع مرور الوقت: فلم يعد القصد معرفة فيما
إذا كانت الزراعة قادرة على إطعام السكان المتزايد عددهم أو إذا كان سعر الأرض
سيزداد لدرجة كبيرة، ولكن كان القصد بالأحرى فهم دينامية رأس المال الصناعي الذي كان
مزدهراً.
كان الأمر الأكثر تأثيراً في ذلك الوقت هو بؤس
الطبقة العاملة الصناعية. فقد تجمّع
العمال في الأكواخ. وكانت أيام العمل طويلة والرواتب مخفضة جداً. بؤس حضري جديد
أخذ في التشكل، أكثر سوءاً من
البؤس الريفي للنظام السابق في بعض جوانبه. فروايات ذلك الوقت مثل جرمينال، وأوليفر تويست والبؤساء لم تولد
من مجرد خيال الروائيين، فالقوانين كانت فقط تمنع تشغيل الأطفال دون الثامنة
في المصانع –في فرنسا عام 1841- أو من هو أقل من عشر سنوات للعمل في المناجم في
المملكة المتحدة عام 1842. وقد نشر الدكتور فيليرمي "جدول الحالة الفيزيائية
والمعنوية لعمال المصانع" في فرنسا عام 1841، الذي يصف واقعاً رديئاً مماثلاً لما نشره إنجلز
عام 1845 بعنوان "حالة الطبقة العاملة في إنكلترا".
وفي الواقع فإن كل المعطيات التي نملكها
اليوم تشير إلى أنه كان يجب انتظار النصف الثاني -أو حتى الثلث الأخير- من القرن
التاسع عشر لبلوغ زيادة معقولة في القدرة الشرائية للأجور. فبين سنوات 1800-1810
إلى 1850-1860 بقيت مستويات الرواتب منخفضة جداً –قريبة من أجور القرن
الثامن عشر والقرون السابقة، وحتى أقل في بعض الحالات. وهذه الفترة الطويلة من
جمود الرواتب، التي كانت موجودة في المملكة المتحدة وفي فرنسا، مثيرة للاستغراب
بقدر النمو الاقتصادي المتسارع في تلك الفترة. وحصة رأس المال –الأرباح الصناعية،
وعائدات أجور الممتلكات، وأجور البيوت في المدن- في الدخل القومي، ضمن حدود
إمكانية تقديره من المصادر الناقصة التي نمتلكها اليوم، كانت تتزايد بقوة في البلدين
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وتنخفض قليلاً في العقود الأخيرة من ذلك القرن، عندما ستلحق الرواتب جزئياً تأخرها
في الزيادة. والمعطيات التي تمكّنا من جمعها تشير على كل بأنه لم يحصل أي تراجع بنيوي
للامساواة قبل الحرب العالمية الأولى. أما بين السنوات 1870-1914، فشهدنا
استقراراً في اللامساواة على مستوى مرتفع جداً، وفي بعض الجوانب إلى دوامة من
اللامساواة بلا نهاية، مترافقة خصوصاً مع تركز أكثر فأكثر شدة للثروات العامة. ومن
الصعب القول إلى أين كان لهذا المسار أن يقود بدون الهزات الاقتصادية والسياسية
الرئيسية التي نجمت عن انفجار 1914-1918، التي تظهر على ضوء التحليل التاريخي، ومع
إمكانية القراءة المتأنية التي يمكننا أن نقوم بها اليوم، باعتبارها القوى الوحيدة
التي قادت إلى خفض اللامساواة منذ الثورة الصناعية.
كان ازدهار رأس المال والأرباح الصناعية،
مقارنة مع ركود العائدات الناجمة عن الذهاب إلى العمل، هي حقيقة واضحة لدرجة أنه
في السنوات 1840-1850 كان الكل واعياً تماماً لهذه المسألة. وفي هذا السياق نشأت الحركات
الشيوعية والاشتراكية الأولى. والتساؤل المركزي هو تساؤل بسيط: ما الفائدة من
تطوير الصناعة، وبما تفيد كل التجديدات التكنولوجية، وكل هذا العمل، وكل هذه
الهجرات، إذا كان بعد انقضاء أكثر من نصف قرن من النمو الصناعي فإن حالة القوى
العاملة هي بائسة دائماً، وكل ما كان بوسعنا عمله هو منع العمل في المصانع
للأطفال لمن تقل أعمارهم عن 8 سنوات؟ وهنا يبدو قصور النظام الاقتصادي والسياسي
القائم جلياً. والسؤال التالي مماثل بالقدر نفسه: ماذا يمكن أن نقول عن تطور مثل
هذا النظام على المدى البعيد؟
يكرس ماركس نفسه لهذه المهمة. وفي عام 1848،
قبيل "ربيع الشعوب"، نشر "البيان الشيوعي"، وهو نص
قصير ومثير يبدأ بالجملة الشهيرة "شبح يشغل أوروبا، إنه الشبح الشيوعي"،
وينتهي بالتنبؤ الثوري الشهير "إن تطوير الصناعة يقوض، تحت أقدام
البورجوازية، الأرض نفسها التي أقامت عليها نظامها في الإنتاج والتملك. وقبل كل
شيء فإن البورجوازية تنتج حفاري قبورها.
وإن سقوطها وانتصار البروليتارية لا يمكن تجنبهما".
وفي العقديين التاليين لذلك، جهد ماركس في كتابة كتاب ضخم كان عليه تبرير هذه الخلاصة وتأسيس التحليل العلمي للرأسمالية وانهيارها. ولكن هذا العمل لم يكتمل: فالجزء الأول لرأس المال نشر عام 1867، ولكن ماركس توفى عام 1883 دون أن ينتهي من الجزأين الآخرين، اللذان نشرهما صديقه أنجلز، انطلاقاً من مقاطع لمخطوطات غامضة أحياناً تركها ماركس.
وكما في حالة ريكاردو، فإن ماركس يريد بناء
عمله على تحليل التناقضات المنطقية الداخلية للنظام الرأسمالي. ويريد بهذا أن يميز
نفسه عن كل من الاقتصاديين البورجوازيين (الذين يرون في السوق نظاماً يضبط نفسه
بنفسه، أي أنه قادر على أن يتوازن بنفسه، أي دون تباعد كبير، على شاكلة "اليد
الخفيّة" لآدم سميث و"قانون الأسواق" لساي)، وعن الاشتراكيين
الطوباويين الذين بحسبه يرضون بإدانة البؤس العمالي، دون أن
يقترحوا دراسة علمية حقيقية عن السيرورات الاقتصادية القائمة.
وفي الخلاصة، ينطلق ماركس من نموذج ريكاردوي لسعر رأس المال ومن مبدأ الندرة،
ويدفع أكثر باتجاه تحليل دينامية رأس المال، معتبراً عالماً يكون فيه رأس المال
صناعياً قبل كل شيء (آلات، وتجهيزات، الخ) وليس رأس مال أراضي، وبإمكانه إذاً أن
يتراكم بلا نهاية. وعليه فإن خلاصته الرئيسية هي ما يمكن أن نسميه "مبدأ
التراكم اللانهائي"، أي التوجه الحتمي لتراكم رأس المال وتركزه بكميات هائلة،
بدون حدود طبيعية –ومنه النتيجة المرعبة التي يتوقعها ماركس: إما أن يحدث خفض
مستمر لعائد رأس المال (الذي يقتل محرك التراكم ويقود الرأسماليين إلى التمزق بين
بعضهم)، وإما أن تتزايد حصة رأس المال في الناتج الوطني بلا نهاية (الذي يقود
العمال خلال فترات قصيرة نوعاً ما إلى الاتحاد والثورة). وفي كل الأحوال، فلن يكون
هناك أي توازن اجتماعي واقتصادي أو سياسي مستقر.
وهذا المصير الأسود لم يتحقق بأكثر من ذلك
الذي توقعه ريكاردو. فاعتباراً من الجزء الثالث للقرن التاسع عشر، أخذت الرواتب
بالازدياد: التحسن في القوة الشرائية بدأ يعم، وهذا ما غيّر الواقع جذرياً، حتى مع
البقاء الكبير لللامساواة التي استمرت في بعض جوانبها بالتزايد حتى الحرب العالمية
الأولى. حدثت الثورة الشيوعية فعلاً، في أكثر بلدان أوروبا تخلفاً، في بلد بدأت
فيه الثورة الصناعية للتو. في الوقت الذي أخذت فيه البلدان الأوربية الأكثر تقدماً
في سبر طرق أخرى، اجتماعية ديموقراطية، لحسن طالع شعوبها. يهمل ماركس تماماً، مثل
المؤلفين السابقين، إمكانية التقدم التكنولوجي المستديم وتزايد الإنتاجية المستمر،
وهي قوة تسمح بموازنة سيرورة التراكم والتراكم المتزايد لرأس المال
الخاص –ضمن حدود ما. ومما لا شك فيه أنه كانت تنقصه البيانات الإحصائية لتحسين
تنبؤاته. وبلا شك فهو ضحية واقع أنه كان قد ثَبّت نتائجه منذ عام 1848، حتى قبل أن
يبدأ بالأبحاث القابلة لتبرير هذه النتائج. ومن الواضح أن ماركس كان يكتب في جو من
الإثارة السياسية الكبيرة، الذي يقود أحياناً إلى طرق مختصرة متسرعة يصعب الإفلات
منها –ومنه الضرورة المطلقة لربط المقولات النظرية بالمصادر التاريخية المكتملة
بقدر الإمكان.
وبدون اعتبار أن ماركس لم يطرح أبداً على نفسه السؤال عن التنظيم السياسي
والاقتصادي لمجتمع حيث تكون الملكية الخاصة لرأس المال قد اختفت تماماً –مسألة
معقدة فيما لو وجدت، كما تظهر الارتجالات الشمولية الدراماتيكية للأنظمة التي سارت
بذاك الطريق.
وبالرغم من كل هذه
المحدوديات، فإن التحليل الماركسي يحتفظ ببعض الألمعية في العديد من الجوانب. فأولاً
ينطلق ماركس من سؤال حقيقي (تركز غير معقول للثروات خلال الثروة الصناعية) ويحاول
الإجابة، بالوسائل التي كان يمتلكها: وهذه طريقة يحسن باقتصاديي اليوم أن يحذوا
حذوها. ومن ثم خصوصاً، مبدأ التراكم اللامحدود الذي دافع عنه ماركس يتضمن حدساً
رئيسياً لتحليل القرن الحادي والعشرين مثلما في تحليل القرن التاسع عشر، وهو حدس
أكثر إثارة بطريقة ما من مبدأ الندرة الغالي على ريكاردو. ومن اللحظة التي يكون
فيها معدل النمو السكاني وتكون فيها الإنتاجية ضعيفة نسبياً، فإن الثروات العامة
المتراكمة في الماضي تأخذ على نحو طبيعي أهمية بالغة. وهي هائلة من حيث القدرة
الكامنة فيها وتسبب عدم الاستقرار في المجتمعات ذات الصلة. وبمعنى آخر، فإن نمواً
ضعيفاً لا يسمح إلا بموازنة ضعيفة لمبدأ التراكم اللامحدود الماركسي: سينجم عنه
توازن ليس مرعباً بالقدر الذي توقعه ماركس، ولكنه ليس أقل تشويشاً. يتوقف التراكم
عند نقطة معينة، ولكن هذه النقطة يمكنها أن تكون عالية للغاية ومسببة لعدم
الاستقرار. والارتفاع الشديد لقيمة الثروات الخاصة، التي تقاس بسنوات عائد وطني،
الذي نشهده منذ سنوات 1970-1980 في مجموعة من البلدان الغنية –خاصة في أوروبا
واليابان، ينتج مباشرة عن هذا المنطق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق